اخبار لبنان
موقع كل يوم -نداء الوطن
نشر بتاريخ: ١٢ نيسان ٢٠٢٥
في زمنٍ اشتعلت فيه البنادق وخفتت فيه أصوات الهتاف، كانت كرة القدم في لبنان تحاول أن تلمّ شتاتها… لكنّ المدرّجات أغلقت على نفسها، وتحوّلت الملاعب من ساحات للمنافسة إلى منصّات للصراع، وصار كلّ نادٍ علماً، وكل مدرّج خندقاً.
خمسون عاماً مرّت على اندلاع الحرب اللبنانية، ولكنّ ذاكرة الكرة لم تُمحَ. من رحم هذا الجنون، خرج كتاب 'استراحة بين الشوطين' للكاتب والمترجم اللبناني فوزي يمين، الذي لم يكن شاهداً عادياً على المرحلة، بل كان لاعباً في 'السلام زغرتا' و 'الحكمة بيروت'، ومثّل المنتخب الوطني في تصفيات كأس العالم 1993. لقّبوه بالمايسترو، لكنه اليوم يعزف لحن الحكاية لا اللعبة.
يمسك يمين بالقلم كأنه كرة، ويتسلّل بين السطور كأنه يناور داخل الملعب. يقول: 'ثمَّ تنغلق المدرَّجات على نفسها، فيقف الجمهور المسيحيُّ، ويتسلَّح بفِرَقه، ويتَّخذ من سيطرة ناديه 'الراسينغ' التاريخيَّة سبباً لوقوفه هذا، ويخرج جمهور من الأرمن خلف الهومنتمن والهومنمن، ليُترجم توجُّهات حزبَي الطاشناق والهانشاق المتناقضَيْن فكرياً وسياسياً'.
وهكذا، لم تكن مباريات تلك الحقبة تُخاض من أجل الثلاث نقاط، بل من أجل إثبات الوجود. في جهة، النجمة والأنصار والتضامن بيروت، أندية اصطفّت سياسياً وطائفياً في معسكر مختلف. في الجهة الأخرى، كانت الأندية المسيحية والأرمنية، تحمل أوزار التاريخ والجغرافيا معاً.
لكنّ الشرارة الحقيقية اشتعلت عام 1972، حين تُوّج 'النجمة' بطلاً، فاندفعت الغرائز من أعماق الذاكرة الجماعية، وكأن كرة القدم أعلنت بداية الحرب قبل أن تُطلق أول رصاصة. قبلها، كان 'الراسينغ' سيّد الساحة، ومعه 'الهومنمن' و 'الهومنتمن'، لتتغير بعدها قواعد اللعبة.
وخلف خطوط التماس، كانت الحرب تشتعل على جبهات أخرى: الجبهة اللبنانيَّة، جيش لبنان الحُرّ، جيش لبنان الجنوبيّ، إسرائيل، نمور الأحرار، الكتلة الوطنيَّة اللبنانيَّة، حُرَّاس الأرز، الاتِّحاد الثوريّ الأرمنيّ في لبنان، حزب الرمغافار الديمقراطيّ الليبراليّ الأرمنيّ، حزب الطاشناق، حزب الهانشاق، الحزب الديمقراطيّ الاشتراكيّ، الحزب التقدُّميّ الاشتراكيّ، الحزب السوريّ القوميّ الاجتماعيّ، حزب البعث العربيّ الاشتراكيّ، الحزب العربيّ الديمقراطيّ، حركة الناصريِّين المستقلِّين - المرابطون، الحزب الشيوعيّ اللبنانيّ، حركة الوحدويِّين الناصريِّين، التنظيم الشعبيّ الناصريّ، الحركة الوطنية اللبنانيَّة، جبهة المقاومة الوطنيَّة، منظمة التحرير الفلسطينيَّة، حزب اللّه، إيران، حركة التوحيد الإسلاميّ، سورية، حركة أمل، حركة فتح، القوَّات اللبنانيَّة، جبهة الإنقاذ الوطنيّ الفلسطينيّ، المَرَدَة، حزب الكتائب، الجيش اللبناني، قوَّة الأمم المتَّحدة الموقَّتة في لبنان، القوَّة المتعدِّدة الجنسيَّات في لبنان: الولايات المتَّحدة وفرنسا وإيطاليا، قوَّات الردع العربيَّة: السعوديَّة، السودان، الإمارات، ليبيا، واليمن الجنوبيّ ...
الفِرَق الرياضيَّة المتحاربة خلال هذه السنوات، أي من 1975 حتَّى 1990: الأنصار، النجمة، الصفاء، الشبيبة المزرعة، شباب الساحل، التضامن بيروت، الراسينغ، الحكمة، الاستقلال، الأهلي صربا، السلام زغرتا، الرياضة والأدب طرابلس، الأهلي صيدا، التضامن صور، البرج، المبرَّة، الشباب الغازيَّة، الإخاء الأهلي عاليه، الهومنتمن، الهومنمن. مشهد معقّد، جعل من لبنان ساحة لحرب عالمية بحجم وطن صغير.
وبين الرصاص والسياسة، صمدت أسماء الفرق، أندية حافظت على بريقها رغم الدم والدخان، وإن لم تسلم من التوظيف الطائفي والسياسي.
نهاية الشوط الأول... وبداية جديدة؟
وفي مطلع التسعينات، لاح فجر جديد. أُعلن وقف النار، وفُتحت الطرق، وبدأت المصطلحات الجديدة تتسلّل إلى الخطاب اللبناني: 'ائتلاف'، 'اتفاق'، 'شرعية'. لكن حتى كرة القدم لم تنجُ من سؤال الشرعية: من هو الاتحاد الرسمي؟ اتحاد 'الشرقية' أم اتحاد 'الغربية'؟ وهكذا تُرفع القضية إلى مكتب دستوري فرنسي، فيعجز عن الحسم ويقرّ بشرعية الاثنين معاً.
على الجبهة السياسية، يُبرم اتفاق الطائف في السعودية. أما على الجبهة الرياضية، فثمة من قرّر اللعب على أرض محايدة: دمشق. بوساطة من عميد سوري يجمع بين رئاسة الاتحاد الكروي واللجنة الأولمبية، تُدعى الفرق اللبنانية للجلوس إلى طاولة واحدة. يشارك فريق الكاتب فوزي يمين، وتُطرح صيغ الوفاق، ولكن كما حدث في السياسة، ينفرط العقد، وتعود الفرق إلى ملاعبها – كلٌ في منطقته، كلٌ في طيفه.
ولكن بعدها، ووفقاً للمعطيات تحسم النتيجة لصالح القوي، الثاني، فالذي يفوز في الحرب يفوز بالرياضة يقول يمين. ويضيف: 'هكذا انضمّ فريقنا إلى اتحاد 'الغربية' مع فريقي الحكمة والراسينغ، وفريقَي الأرمن الهومنتمن والهومنمن من 'الشرقية'. ويكون التمثيل الطائفي، على الصعيدين السياسي والرياضي هو سيد الموقف بلا منازع.
اليوم، وبعد نصف قرن من الحرب، ما زال صدى صفّارات المباريات القديمة يتردّد في ذاكرة الكرة اللبنانية. لم تكن مجرّد مباريات، كانت مواجهة بين تاريخين، بين هوّيتين، بين وطنين داخل حدود بلد واحد. وفي زمن 'الاستراحة' القسرية، لعبت الحرب شوطين من الألم. أما اليوم، فلعلّ صفّارة الحكم تعلن بداية مباراة جديدة… عنوانها الوحيد: لا غالب ولا مغلوب.