اخبار لبنان
موقع كل يوم -جريدة اللواء
نشر بتاريخ: ١٢ أيلول ٢٠٢٥
رمزي حميدان
قد يأتي يوم ونرى فيه عظامنا تذوب في تلك الثغور من جبل لبنان من أجل الدَّوْر، وربما نصبح ثغراً يمرُّ علينا الغد مرور الكرام أو هيكلاً من الهياكل المنسية ارتسمت على جدرانه آلام الذاكرة التي تشاركنا حياتنا اليومية، أو يوم نرى فيه «زاد الخير» تقف وحيدة بين الثغور وفي يدها مفاتيح القرى المهجورة وأفراحها الهاربة الى النسيان تنتظر من يلقي عليها التحية.
ضِياع فقدت ذاتها وناسها يحتالون على الحياة وأحيانا على قناعاتهم السياسية من أجل لقمة العيش ويفتخرون بالوقت ذاته بأنهم حراس هذه الهياكل التي يزحف إليها الموت البطيء من كل ناح. هذا التصحر النفسي الذي أصاب قرانا وبيئتنا لم نعتد عليه حتى في أحلك الظروف وأصعبها.
قد لا يستطيع الكلام أحيانا أن يصوّر مستوى الحالة النفسية التي وصل إليها الناس ، ولكن الفرد منا يشعر بها ويرى انعكاساً لها في حركته اليومية. المعاناة الإنسانية أو ردات الفعل السلبية هي في غالب الأحيان نتيجة وليست سبباً وهي اليوم تسيطر على حياتنا وخاصةً على أدائنا اليومي.
من الواضح ان علامات الكآبة والإحباط وعدم الرضى تقرأها جلياً في وجوه أغلب الناس في لبنان وفي الجبل خصوصاً.
الأسباب كثيرة ومتشعبة وهي موضوع نقاش وأخذ وردّ لن أدخل في تفاصيلها وهي ليست مرتبطة فقط بالوضع المعيشي أو الاقتصادي أكثر من ارتباطها بشعور عام بالقلق على «الدور والمساهمة أو المشاركة».
يشترك في هذا الشعور أغلب الناس على مختلف انتمائاتهم الحزبية والسياسية وذلك نتيجةً لأسلوب حياة ونمطية في التفكير وقناعات مسبقة مبنية على تراكمات تاريخية تحوّلت بفعل الممارسة الى ثقافة عامة في حياتنا التي اختلطت فيها الأهداف والمصالح الحياتية بالوسائل والأدوار والمنافع الشخصية.
«نحن دور ولسنا حجماً»، هكذا قيل، ولكن هناك شعوراً عامًّا بأن ليس لدى الدروز اليوم أي دور في لبنان، وإعادة التذكير على دور مضى لا يكفي للخروج من الحالة الراهنة. الناس يشعرون بالعزلة والإحباط ويجب التفكير في حلول مجدية. فالأحداث ألأخيرة في سوريا والظروف العسكرية والسياسية التي حصلت مؤخراً بما فيها الحرب على لبنان، لا يجب أن ننظر إليها كمسبب لحالتنا الراهنة ولكن انشغال الناس اليومي بها جعلها تطغى على جوهر المشكلة. في رأيي السبب ناتج عن ثقافة تعوّدنا أن نسمعها وعايشناها منذ عقود وهي ثقافة الدفاع والحماية، كاننا قبيلة أتوا بها من مكان ما ودورها فقط عسكري أو أمني. نواطير نحرس الدار ونحرس القصر ونحرس الطريق ونحرس المركز ونحرس الضيعة ونحرس الثغور ونحرس الخاصرة، نحرس ونحرس ونحرس. حماة الثغور، تاريخ نفخر به وسيبقى جزء من دورنا، وماذا بعد..
لا نريد فقط أن نكون جزءاً من تاريخ لبنان نريد أن نشارك مع بقية اللبنانيين في صناعة تاريخ لبنان في جميع نواحي الحياة ويكون لنا دور إيجابي بالفعل وليس بالقول ولن نقضي عمرنا وعمر أجيالنا حراس للهيكل وحماة ونواطير للثغور فقط، بل نريد أن نتقدّم نتطوّر ونشارك مع بقية أبناء وطننا بالإبداع الثقافي والحضاري والإنساني. لم نستطع على مرِّ عقود أن نعيد نصف سكان الجبل والنصف الثاني يريد الهجرة والرحيل إذا استطاع، تاركين ورائهم الهياكل والثغور لمن يريد أن يتربع عليها.
كيف نستطيع أن يكون لنا دور في بناء الدولة والناس يعيشون حياتهم كلها على «الدور» الذي يقوم على حماية الثغور، دور النواطير وحراس الهيكل.
دور الناس وخاصة الدروز دور أكبر وأشمل. هناك مسؤوليات كبيرة تقع على عاتق القيّمين على هذا الجبل وعلى الناس أيضا. الفكر أساس كل شيء هو الذي يصنع الحياة ويطوّرها. لنبدأ مشروع التغيير في هذا الجبل ولنبتعد قليلا عن السياسة، إذا كنا مسيّرين في السياسة فليكن خيارنا في الثقافة والتطوير الاجتماعي هدفنا ولنعمل سويا لتغيير هذه النمطية في التفكير بدل أن تتشكّل لجان أمنية وسياسية بين الأحزاب فلنضع جهدا على تشكيل اللجان الثقافية الاجتماعية والاقتصادية لعلّها تصنع حالة من الحراك على هذه المستويات.
بالإشارة الى موضوع «المساهمة أو المشاركة»، هنا سأتكلم بشكل خاص عن الدروز، ليس من منطلق مذهبي أو طائفي مناطقي ولكن من نظرة واقع النظام اللبناني الذي لا يرانا أحزاباً وتنظيمات، بل كطائفة والذي نريده هو المساهمة مع بقية اللبنانيين في تغيير هذا الواقع. ربما اليوم ليس لدى الدروز شيء يقدّمونه للبنان، ان كان في مسألة بناء الدولة والمؤسسات أو مسألة الإبداع الثقافي والفكري أو حتى مسألة طرح أي مشروع تقدمي أو تطويري على مستوى الوطن قادرين على السير به. لن أعود كثيرا في التاريخ ولكن بعد فترة انتهاء الحرب الى يومنا هذا، ماذا كانت مساهمة اللبنانيين الدروز الاجتماعية والثقافية في لبنان؟ حقيقة مرة يجب ان نواجهها.
لن أقتنع بان النظام السابق في تلك الفترة منع هذه المساهمة، قد يُقبل هذا المنطق على المستوى السياسي، أما على المستوى الاجتماعي الثقافي فهو غير مقبول.
لدينا في بيئتنا أسلوب حياة منفتح وحرّ نريد تطويره لنستطيع أن نشترك في حياة أفضل مع بقية اللبنانيين ولكن كيف نستطيع أن نشارك مع بقية اللبنانيين في بناء وطن ودولة إذا لم يكن لدينا شيء نشارك به، أم ان تاريخنا رصيد في المصرف نسحب ونصرف منه ساعة نشاء! كنّا، نعم كنّا، ولكن السؤال يبقى، ماذا سنكون في الغد؟
تعالوا نعيد البهجة والأفراح والمهرجانات الثقافية والأمسيات الشعرية وعروض المسارح والموسيقى ونحيي أرواح الناس من جديد بعيدا عن التجارة والسياسة والربح المادي.
دعونا نفتح ثغرة في جدار ثقافة النواطير هذه لنعبر من خلالها الى فكر الفلاّح المنتج الذي يزرع ويعتني ليرى حياته تكبر وتنمو وتعبر الى مستقبل مشرق بالحياة الكريمة.
ألا نستطيع أن نحمي ونبني وننمو ونتطوّر؟ أين أصبحت نفوسَنا المبدعة وذواتنا الخيّرة وآمالنا المستقبلية، هل دفنتها الريح في الثغور؟
فلنتذكّر معا أقوال ذلك الرجل الذي مشى في يومه الشجر لعلّها تكون بداية ونقطة انطلاق «السياسة يفترض فيها أن تكون أشرف الآداب إطلاقاً». «علينا أن نخوض معركة الثورة الثالثة، ثورة التبديل في المجتمع والإنسان، بمنحه ذهنية وروحية جديدة، وإن كان هذا حلم؛ فلولا الحلم لما كان جمال الدنيا ولما سعى الإنسان في الحياة؛ فهو المحرّك للبطولة وللتاريخ وللحضارة».
فلنحَرِّك في ذاتنا الإنسانية فعل الحضارة والإبداع ونشارك بقية اللبنانيين وتحت سقف الدولة في صناعة مستقبل لبنان بعد ان كنا ولا نزال فقط جزءاً من تاريخه.
(زاد الخير: فيروز في مسرحية «ناطورة المفاتيح»)