اخبار لبنان
موقع كل يوم -المرده
نشر بتاريخ: ٢٩ تشرين الأول ٢٠٢٥
تشهد الساحة اللبنانية – الإسرائيلية، في الأسابيع الأخيرة تسارعاً في المستجدّات الميدانية والسياسية، يتّخذ أشكالاً متعدّدة: من تكثيف الاغتيالات والاعتداءات الإسرائيلية، إلى تفعيل مسار ضغط أميركي – سياسي، لدفع لبنان، نحو خيارات تتنافى مع ثوابته السيادية والدفاعية، وصولاً إلى رفع مستوى الجاهزية العملياتية، في جيش الاحتلال عبر مناورات وتدريبات وتهديدات علنية حول «المعركة المقبلة»، داخل العمق اللبناني.
في لحظات التصعيد، لا يكفي الاكتفاء بوصف ما يجري أو تقييمه بنتائجه المباشرة؛ بل يصبح ضرورياً قراءة البنية التي تُنتج هذا السلوك، أي فهم منطق القرار الذي يدير المواجهة واتّجاهاتها المستقبلية. فالاغتيال، في هذا السياق، ليس مجرّد حدثٍ تكتيكي معزول، بل أداة سياسية – عسكرية، تُستخدم لترسيخ قواعد اشتباك جديدة، هدفها منع العدو من إعادة ترميم قدراته أو تطوير تكتيكاته بما ينسجم مع تحوّلات البيئتين الاستراتيجية والعملياتية. بذلك، لا يضرب العدو «هدفاً» بعينه، بقدر ما يسعى إلى تثبيت معادلة وتطويرها وجعلها أكثر فاعلية وجدوى.
ومن هذه الزاوية، تتحوّل موجة الاغتيالات من فعل موضعي إلى محاولة لإعادة تشكيل السقف الاستراتيجي، بغرض حرمان المقاومة من الاستفادة من الوقت. بعبارة أخرى، نواجه تحرّكًا ذا بُعدين: وقائي واستباقي، يستهدف البيئة والمقاومة ولبنان ككل، وليس مجرّد حدث ظرفي عابر. لذا ينتقل التحليل من سؤال «ماذا حصل؟» إلى سؤال أعمق: «إلى أي اتجاه يُدفع المشهد؟ وما المخاطر التي يجري تجنّبها أو مراكمتها؟»، وهو السؤال المؤسّس للعقل الاستراتيجي، في قراءة المواجهات الطويلة الأمد.
تتحرّك إسرائيل، حتى الآن في مساحة «ما دون الحرب» انطلاقاً من مفهوم أمني استراتيجي عملياتي جديد تبلور بعد طوفان الأقصى، يتمحور حول منع نشوء وتطوّر التهديدات. وهي ترفع سقف الضغط، لكن من دون قرار نهائي بخوض معركة واسعة الآن. الاحتمال قائم، لكنه لا يزال غير حتمي. ولهذا فإنّ الاغتيالات ليست غاية بل وسيلة؛ جوهرها: منع المقاومة من ترميم قدراتها وقطع الطريق على تحوّل التعافي إلى تفوّق، وصولاً إلى إخضاع لبنان، بالكامل للهيمنة الأميركية – الإسرائيلية.
الزمن هنا، يصبح جزءاً من ميدان المعركة. فإسرائيل، تريد احتواء التعافي قبل اكتماله، فيما تسعى المقاومة إلى تدوير الوقت لمصلحتها. وبهذا المعنى، يصبح السؤال الجوهري: من هو الطرف الذي يستطيع إبقاء الزمن حليفاً، ومن هو الطرف الذي يخشى من الزمن ويستعجله؟ في الظاهر، النار هي الخبر؛ في العمق، الزمن هو الحدث.
كما يؤدّي الضغط السياسي دوراً موازياً للضغط العسكري. فرفع وتيرة الهجمات يتكامل مع محاولة تصنيع مناخ داخلي في لبنان، يهدف إلى خلق شعور بأنّ «سلاح المقاومة هو المشكلة»، بهدف تعزيز خطاب نزع السلاح، مع تجاهل تامّ لما يترتّب على ذلك من مخاطر استراتيجية ووجودية، تطاول مستقبل لبنان. الأميركي، هنا ليس مجرد داعم، بل محدِّد للإيقاع، وضابط لمرحلة «التصعيد المضبوط». وهذا الضبط، ما كان ليتمّ لو لا إدراك واشنطن، بأنّ الوقت – إذا تُرك للمقاومة – قد ينتج واقعاً أصعب على المستوى الاستراتيجي.
اذا ما تجاهلنا محلّلي الحرب المستمرّين على الوتيرة نفسها منذ عشرة أشهر، يجب الانتباه إلى أنّ رفع الجاهزية الإسرائيلية، لا يعني بالضرورة قرار الحرب. فهو جزء من الضغط النفسي الموازي للضغط العسكري، بهدف انتزاع مزيد من التنازلات من الدولة اللبنانية وتمهيد لخطوات تهدف إلى تثبيت معادلات. فالمسار لا يزال مضبوطاً، ومرتبطاً بحسابات لا تزال تتجنّب الانزلاق إلى حرب واسعة، خاصة في ظلّ معادلات القوة القائمة، بحسب مؤسّسات التقدير والقرار في كيان العدو لا بحسب الخطاب الإعلامي المعادي الذي يرى أنّ المقاومة قد انتهت.
المشهد الراهن ليس حرباً ولا سكناً، بل حلقة من «سباق الزمن» بين بنية تُحاول تثبيت وتصاعد معادلة الميدان القائمة بهدف تثميرها في أكثر من اتجاه، وبنية أخرى تحاول استكمال تراكم القوة. إسرائيل، تختبر الضغط المتدرّج كي تحوّل الإنهاك إلى تعديل في المعادلة، بينما تعمل المقاومة، على مراكمة القدرة وتخفيف الاحتكاك المباشر قدر الإمكان للحفاظ على أفضلية على المدى الطويل. هذا ما يجعل الساحة الآن «ميدان إعداد»، أكثر منها «ميدان حسم».
وعليه، يمكن القول إنّ التصعيد سيستمرّ وقد يرتقي إلى ما هو أعلى من الوقت الراهن، ولكن ضمن منسوب مضبوط يبقى دون عتبة الحرب الشاملة. فالحرب ليست مستبعدة كلّياً ولا حتمية، لكنها ليست وشيكة أيضاً. المحدِّد ليس نبرة الخطاب، بل مسار الزمن: إذا استطاعت المقاومة تثبيت استمرارية البناء على أمل اكتمالها إلى حدّها الأقصى الممكن، وعندها تتهيّأ الأرضية لواقع أقلّ خطراً وضرراً ممّا هو سائد الآن.
في التحليل الأخير، لا ينبغي التركيز على «كمّية الحدث» بل على «اتجاهه». فالمعركة ليست حول ردود الأفعال، بل حول مَن يملك مفاتيح التحوّل في البيئة الاستراتيجية. وكلما حاولت إسرائيل، دفع المعركة إلى مستوى «الإرباك»، تحاول المقاومة تحويلها إلى مستوى «التثبيت». وهذا ما يفسّر بقاء الصراع مفتوحاً، لكن داخل منطقة رمادية يديرها الزمن بقدر ما تديرها النيران.











































































