اخبار لبنان
موقع كل يوم -جنوبية
نشر بتاريخ: ٢٧ كانون الثاني ٢٠٢٥
يتجلّى التماهي ضرورةً في حياة الفرد، لأنه يؤدي دوراً مهماً في تشكيل هويته الخاصة، التي تمده بالفرادة، و تؤثر في علاقاته مع ذاته والآخرين وفي محيطه. وهو يعدُّ عملية سيكولوجية، ترافقه منذ طفولته، و يتبنى من خلالها، خصائص وسلوكيات ومعتقدات ومواقف، بعد أن يلجأ إلى استيعابها، لتتحول بذلك إلى مكونات تدخل في تأسيس شخصيته.
ومن هذا المنطلق، قد يحمل التماهي معه، مخاطر تهدد الحياة النفسية في حال كان يستهدف، إن صح التعبير، نموذجاً 'ضاراً'، يسبّب التعلق به الأذى والاضطراب.
و قد يأتي 'البطل' الذي تصنعه وسائل التواصل الاجتماعي، من خلال 'الترند' ليشكل نموذجاً 'سيئاً' يتماهى به الطفل، فيؤثر سلباً على إدراكه لذاته وتصرفاته. و يفرض التناول السيكولوجي لمآل هذا التعلق الحادّ، التعرّض أولاً إلى ماهيته في تشكّل الهوية النفسية، ولو بإيجاز، ليصار إلى فهمه بشكل أفضل.
يُعدُّ التماهي أوالية، تسهم في سيرورة التعلم، التي يتخذ الطفل بواسطتها نموذجاً له، كالأب أو المربي أو أي صورة عامة يتأثر بها. و هو يعمد إلى تقليده، مستدخلاً بذلك معايير و قيّم و كفاءات ومهارات.. مما يسهم في صقل هويته، وبلورتها وتحديد طبيعتها. وعلى هذا النحو، يؤدي دوره الكبير في النمو السيكولوجي للطفل.
و بدوره، ينيط سيغموند فرويد بالتماهي دوراً مصيرياً، في تكوين ليس فقط الهوية النفسية فحسب، وإنما أيضاً الجنسية. وهو يتحدث، في هذا الصدد، عن المرحلة الأوديبية، التي تتخذ من التماهي نواةً لها. إذ يتماهى الطفل مع أحد والديه، الذي يتوافق معه في الجنس، من خلال استيعابه للمعايير والموانع الاجتماعية. وفي هذه الحال، يؤسس لتكوين الأنا الأعلى، الذي يعدُّ جزءاً من الشخصية، بحيث يجسد الضمير والمثل العليا.
ومن الطبيعي، أن يعزز هذا الولع لدى الطفل الشعور بالانتماء، و يقوّي بذلك تقديره لنفسه ويجعل من سلوكه سوياً. إلا أنه بالمقابل يتخذ منحىً صراعياً، لأنه قد يولِّد تشتّتاً نفسياً في حال تركّز على عدة نماذج أو معايير متناقضة.
وبالعودة إلى تماهي الطفل مع بطل 'ترند'، فإن مقاربته من منظور سيكولوجي، تشكل ضرورة وذلك لإسهامها، في توضيح مآلاته الكارثية على حياته النفسية.
تؤسس مرحلة الطفولة لبناء الشخصية، من خلال عدة سيروارت بحيث يشكل التماهي أهمها، فيحول الطفل نفسه إلى نسخة عن 'بطله'، في سبيل إثبات وجوده، و تأكيد ذاته، وأيضاً تعزيز انتمائه الاجتماعي. لكن هذا الأمر قد يعيق نموّه الشخصي، ويمنعه من أكتشاف شخصيته على أنها 'واقعية'.
يعمد الطفل إلى 'مثلنة' نموذجه البطل، مسقطاً عليه سمات الكمال والقوة والشجاعة. ومن الطبيعي أن ينعكس هذا الأمر، بشكل سلبي على حياته الانفعالية وتصرفاته، وأيضاً تفكيره و علاقاته.
فيما يتعلق بالمستوى العاطفي، تعزّز هذه المثلنة شعور الطفل بالدونية والاحباط والقلق في كل مرة يقارن نفسه ببطله، ويسعى إلى أن يتساوى معه، ومن ثم ينتهي به الأمر إلى الفشل. و يعود السبب في ذلك إلى ما يناط بهذا البطل من معايير غير واقعية، من النجاح والانتماء والأداء…
وأما بالنسبة إلى الجانب السلوكي، فإن هذه التبعية المتفلّتة من العقلانية تدفعه إلى تقليده لتصرّفات هذا النموذج-المثال والتي قد تحوي عنفاً، ليس فقط تجاه الآخر، وإنما الذات أيضاً، من دون التفكير في نتائجها الكارثية.
و بدورها تتأثر الحياة الذهنية بهذا التعلق 'المطلق' بالبطل، إذ يفصله عن الواقع و يحاصره و يكبله، بقيود ما هو خيالي. لذلك، فهو ينال من إدراكه، و يحرفه عمّا هو صحيح و عقلاني. وبدورها، تتبدى الذهنية السلبية نتيجةً خطيرة للتماهي المذكور، بحيث ينتظر الطفل الحلول الجاهزة لمشاكله، بدلاً من أن يبادر إلى صنعها و ابتكارها.
و من جانب آخر، يٍضعِف الولع بهذا البطل 'الافتراضي' او ذاك، روابط الطفل مع أفراد أسرته و أصدقائه ومحيطه، وأحياناً يعمد إلى قطعها. وهو يعمد إلى استهلاك كل وقته مع بطله، متسمّراً أمام الشاشة، لكي يشعر بأنه قريب منه.
تتبدى رقابة الأهل لمحتوى ما يتعرض له الطفل عبر وسائل التواصل الاجتماعي خطوة أولى لحمايته، من أن يقع فريسة لتعلق مرضي ببطل 'افتراضي'.
ويأتي فتح باب النقاش معه حول هذا المحتوى أو ذاك، ليكسبه ملَكة التحليل وطرح الاسئلة، حول ما يراه و يسمعه. ومن جانبها، تؤدي توعية الطفل حول وسائل التواصل الاجتماعي، دورها الكبير في اكتسابه الحسّ النقدي، الذي يشكل حصانة له على المستوى الذهني. كما يتبدى تشجيع الطفل على تقليد شخص واقعي، كأحد والديه أو مربيه على سبيل المثال، أوالية مهمة في إنقاذه مما يمكن للعالم الافتراضي أن يتسبب به من أزمات نفسية. ويأتي تعزيز تقدير الذات، من خلال إظهار نقاط القوة وسمات الشخصية والتركيز على المواهب الخاصة بالطفل، بدلاً من التفتيش عن نماذج يعمد إلى تقليدها، ليشكل اجراءاً فاعلاً في مواجهة هذا الولع بالبطل. ويظهر تقييد حرية الطفل في استخدام الشاشات، من خلال تعيين وقت محدد مع وضع الضوابط، بالاضافة إلى توجيهه نحو النشاطات خارج دائرة 'الأونلاين'، كالرياضة والقراءة والنزهات.. أمراً ملحّاً، لأنه يسمح له بالحفاظ على العلاقات الاجتماعية، التي تغذي مبادراته الفردية وتقوي تقديره لذاته.