اخبار لبنان
موقع كل يوم -النشرة
نشر بتاريخ: ٢٤ أيلول ٢٠٢٥
اشار الرئيس جوزاف عون الى انه أقفُ الآن أمامَكم متحدثاً عن السلامِ والتنمية وحقوقِ الإنسان. فيما بعضُ أهلي يُقتلون. ومناطقُ من أرضي محتلة. ووطني وشعبي معلقان بين الحياةِ والموت. تعيدُني هذه الدوّامة سبعةً وسبعين عاماً في الزمن، إلى لجنةِ صياغةِ الإعلانِ العالمي لحقوقِ الإنسان سنة 1948، في ذاتِ نقاش، تدخلت الراحلة الكبيرة إليانور روزفلت مؤيدةً لرأيِ أحدِ الأعضاء، 'كي لا يظلَّ وحيداً'، كما قالت للحاضرين.
أجابَها صاحبُ الرأيِ المخالف باحترامٍ: 'سيدتي الجليلة، صدّقيني إنّ ما يهمُّني، ليس أن يكونَ رأيي متوافقاً مع أكثريةٍ أو أقلية. بل أن يكونَ متطابقاً مع الحقيقة'. صاحبُ هذا القول لم يكنْ غيرَ شارل مالك. الفيلسوفُ اللبناني الذي ساهمَ مع كبارِ الفكر الحقوقي الإنساني يومَها، في إعطاءِ البشرية ذلك الإعلانَ الخالد. والذي أُعطيَ شرفَ رئاسةِ هذه الجمعية الموقرة بين عامي 1958 و1959، ممثلاً لبلدي لبنان.
ولفت الرئيس عون في كلمة له أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة، الى انه 'أستذكرُ هذه الواقعة اليوم، أولاً لأعبّرَ عن إحساسي بالشرفِ الكبير، وبالمسؤولية الأكبر، وأنا أقفُ أمامَكم للمرةِ الأولى، رئيساً للبنان، وفي السنة الثمانين من تاريخ هذه المنظمة العظيمة. وثانياً، لأن دورتَنا هذه، مخصصة للبحث في العلاقةِ المتلازمة بين ثلاثِ فضائلَ بشرية: السلامُ والتنمية وحقوقُ الإنسان، وبينها كلِها، وطني لبنان. فلقد علّمتني التجربة اللبنانية، كما تجاربُ منطقتِنا والعالم، بأنْ لا تنمية بلا سلام. فلا نموَّ في الفوضى. ولا ازدهارَ وسط الصراعاتِ والحروب. فالسلامُ هو التُربة الوحيدة الصالحة لثمارِ التنمية. وعلمتنا التجاربُ نفسُها، بأنه كما لا تنمية بلا سلام، أيضاً لا سلامَ بلا عدالة. ولا عدالة بلا حقوقِ الإنسان. وفي طليعتِها الحقُ في الحياةِ بكرامة.
فبلا كرامة، لا شيءَ في الأرض إلا سلامُ القبور. ولا نموَّ إلا للفقرِ والتخلفِ والعنفِ والدم. فمنذ قيام هذه المنظمة العظيمة، نصَّ ميثاقُها، والذي كان لبنانُ من موقّعيه الأوائل سنة 1945، على ضرورةِ 'أن ننقذَ الأجيالَ المقبلة من ويلاتِ الحرب'. و'أن نعيشَ معاً في سلامٍ وحُسنِ جوار، وأن نستخدمَ الأداةَ الدولية في ترقيةِ الشؤونِ الاقتصادية والاجتماعية للشعوبِ جميعِها'.
واردف 'مبادئُ سامية ظلت ثمانين عاماً على أوراقِ منظمتِنا. فيما ظلت دماءُ شعوبِنا على أرضِ الواقع. وقد تكونُ أسبابُ ذلك كثيرة: طبيعةُ الإنسانِ السلطوية. وطبيعةُ العلاقاتِ بين الدول، القائمة على صراعاتِ النفوذ والهيمنة ومُراكمةِ عناصرِ القوة في كلِ مجال، لكنّ سبباً آخر أجّجَ تلك المأساة، منذ ثلاثين سنة على الأقل. وتحديداً منذ انطلقَ الكلامُ من هنا، عن نظامٍ دوليٍ جديد. إنه السببُ المتمثّلُ في إشكاليةِ الهويةِ والتعددية، داخلَ أيِ مجتمع. أو بين المجتمعاتِ والدول. خصوصاً مع زمنِ العولمة.
فبين حاجةِ الإنسانِ إلى الآخرِ المختلِفِ عنه، وبين خوفِه منه على هويته، وُلدت جدليةٌ جديدة، أعادت التاريخَ البشري إلى مسارِ النزاعات.
ولنعترفْ هنا، بأنَّ أكثرَ التمييزاتِ فاعليةً في تحديدِ هوياتِ الجماعاتِ البشرية على أرضِنا اليوم، ما زالت الهوية الدينية. باسمِها شهدت دولٌ عدة انفجاراتٍ مع جوارِها. وعانت دولٌ أخرى من انهياراتٍ في داخلها.
وباسمِها، ارتسمَ عالمٌ جديدٌ قاتم.
بين غربٍ مهجوسٍ بالإسلاموفوبيا ورُهابِ الآخر. وبين شرقٍ مسكونٍ بذاكرةِ الاستعمار ورواسبِ الحروبِ الدينية البائدة. حتى بدا كوكبُنا، وكأنه يعيشُ الآنَ بالذات، مع كلِ تطورِه العلمي، في زمنٍ سحيقٍ بائد'.
واوضح بانه 'في قلبِ هذه المعضلة، يبرزُ دورُ لبنان، وعِلةُ وجوده، وضرورتُه لمنطقتِه، ورسالتُه للعالم. فوسطَ صراعاتِ الهوياتِ الدينية العالمية، هناك بلدٌ واحدٌ اسمُه لبنان، يعيشُ فيه مسيحيون ومسلمون، مختلِفين، لكنْ متساوين. وفي نظامٍ دستوري، يضمنُ إعطاءَ نصفِ عددِ النوابِ والوزراءِ للمسيحيين، ونصفِه الآخر للمسلمين. وتحت سقفِ المواطَنة الكاملة لكلِ شخصٍ إنساني. مواطَنة منفتحة على كلِ تطورٍ مستقبليٍ لهذا النظامِ بالذات'. واردف 'هو نظامٌ انتقدَه البعض. لكنه نظامٌ فريدٌ، لخّصَ جوهرَه الأساسي، البابا الراحل يوحنا بولس الثاني، بالقول: 'إنه أكثرُ من بلد. إنه رسالةٌ في الحريةِ والتعددية معاً، للغربِ كما للشرق'. انتهى اقتباسُ البابا القديس. وأنا أكررُ وأشدّدُ: في الحريةِ والتعددية معاً.
ففي منطقةٍ يُقتلُ فيها الناس، أو يَقتلون، بسببِ معتقدِهم الديني، أو حتى بسببِ رمزٍ إيمانيٍ يحملونه أو يرتدونه، وفي عالمٍ قلقٍ، عالقٍ بين من يريدُ فرضَ هذا المظهرِ الديني، وبين من يريدُ حظرَه، يظهرُ لبنانُ نموذجاً فريداً لا مثيلَ له ولا بديلَ عنه'.











































































