اخبار لبنان
موقع كل يوم -جنوبية
نشر بتاريخ: ٢٨ شباط ٢٠٢٥
مع كل أزمة كبرى يمر بها لبنان، يتجدد الحديث عن إمكانية تحقيق تغيير جذري يقلب المعادلة السياسية التي حكمت البلاد لعقود. وقد تجدد هذا الأمل بعد الحرب الأخيرة بين 'حزب الله' وإسرائيل، حيث اعتقد البعض أن خسارة الحزب في هذه المواجهة ستؤدي إلى انكسار غير معلن، يجبره على تقديم تنازلات سياسية كبيرة، أبرزها القبول بانتخابات رئاسية وتأليف حكومة جديدة، قد تفتح الباب أمام إصلاحات طال انتظارها.
ما ظهر جليًا في نهج تأليف الحكومة، حيث سُمح للأحزاب بفرض شروطها في تسمية الوزراء، بدلًا من تشكيل فريق عمل متجانس يحمل رؤية سياسية واقتصادية واضحة
لكن الواقع السياسي اللبناني، بكل تعقيداته، أثبت مرة أخرى أن المنظومة السياسية، التي أدارت البلاد لعقود، قادرة على إعادة إنتاج نفسها حتى في أسوأ الظروف. فرغم تكليف رئيس جديد للحكومة، لم نشهد أي محاولة جدية لتقديم برنامج سياسي واضح يعكس رؤية إصلاحية متكاملة. بل على العكس، عادت الأحزاب السياسية إلى قواعدها التقليدية، مستغلة اللحظة السياسية لفرض شروطها المعتادة.
إقرأ أيضا: بعدسة «جنوبية»: سلام في الجنوب.. الجيش هو المولج الدفاع عن لبنان!
وهذا ما ظهر جليًا في نهج تأليف الحكومة، حيث سُمح للأحزاب بفرض شروطها في تسمية الوزراء، بدلًا من تشكيل فريق عمل متجانس يحمل رؤية سياسية واقتصادية واضحة. وهذا النهج يعني أن التغيير المنتظر لن يكون سوى إعادة تدوير للمشهد السياسي القديم، ولكن بأساليب جديدة تتلاءم مع المتغيرات الأخيرة.
رفض المداورة: تكريس الطائفية على حساب الكفاءة والنزاهة
من أبرز الشروط التي تحاول القوى السياسية فرضها على الحكومة الجديدة، رفض مبدأ المداورة في الوظائف العامة من الفئة الأولى، والإصرار على الإبقاء على التوزيع الطائفي للمناصب، بدلًا من اعتماد معايير الكفاءة والنزاهة.
وهذا الرفض لا يعكس فقط تمسك الأحزاب السياسية بمكتسباتها، بل يشكل ضربة خطيرة للمبادئ الدستورية الأساسية التي نصّ عليها اتفاق الطائف، خصوصًا في ما يتعلق بإلغاء الطائفية السياسية تدريجيًا، واعتماد معايير الجدارة في الوظائف العامة.
طالما أن توزيع الوظائف يتم وفق محاصصة طائفية صارمة، ستظل الإدارة اللبنانية عاجزة عن استقطاب الكفاءات، وستبقى خاضعة لسلطة الزعامات الطائفية
ولا يقتصر تعطيل المداورة على المناصب الإدارية، بل له تأثيرات مباشرة على عمل الدولة ككل. فطالما أن توزيع الوظائف يتم وفق محاصصة طائفية صارمة، ستظل الإدارة اللبنانية عاجزة عن استقطاب الكفاءات، وستبقى خاضعة لسلطة الزعامات الطائفية، التي تستخدم هذه المناصب كأدوات للنفوذ السياسي بدلًا من تحقيق المصلحة العامة.
إن الإصرار على هذه العقلية، يجعل أي محاولة لإصلاح الدولة اللبنانية شبه مستحيلة، لأنه يكرّس نموذج الدولة الفاشلة التي تعجز عن اتخاذ قرارات جريئة بعيدًا عن الاعتبارات الطائفية والسياسية الضيقة.
الانعكاسات: استحالة تعديل قانون الانتخاب وتطبيق الطائف بالكامل
رفض الأحزاب الطائفية لمبدأ المداورة، يعكس أيضًا استحالة المضي قدمًا في تعديل قانون الانتخاب، باتجاه نظام أكثر عدالة وتمثيلًا. فمن يتمسك بحصته في الوظائف العامة، لن يقبل بالتأكيد بقانون انتخابي يهدد نفوذه السياسي، لأنه يدرك أن أي تغيير في آلية التوزيع الطائفي للمناصب، سيؤدي لاحقًا إلى تهديد سيطرته على البرلمان.
على الرغم من كل الحديث عن التغيير، يبدو أن الواقع السياسي اللبناني لا يزال محكومًا بالمعادلات القديمة
وهذا يعني أن أي حديث عن تطبيق اتفاق الطائف بالكامل، بما في ذلك إنشاء مجلس الشيوخ وإلغاء الطائفية السياسية تدريجيًا، يبقى مجرد شعار لا يجد طريقه إلى التنفيذ، لأن القوى المسيطرة تدرك أن الإصلاح الحقيقي يعني فقدانها للامتيازات، التي بنتها عبر العقود الماضية.
في ظل هذه المعطيات، يصبح من الصعب تصور أي تغيير جذري في الأفق القريب. بل على العكس، نحن أمام مرحلة جديدة من إدارة الأزمة بدلًا من حلها
وبالتالي، يمكن القول إن النظام السياسي في لبنان، غير قادر على إصلاح نفسه من الداخل، لأن الطبقة الحاكمة تعتمد على الطائفية كأداة للبقاء، وترفض أي تغييرات قد تؤدي إلى فقدانها السلطة، حتى لو كان ذلك على حساب انهيار الدولة بالكامل.
التغيير الجذري: حلم مؤجل أم مستحيل؟
على الرغم من كل الحديث عن التغيير، يبدو أن الواقع السياسي اللبناني لا يزال محكومًا بالمعادلات القديمة. فالحرب الأخيرة لم تؤدِّ إلى أي تغيير فعلي في ميزان القوى الداخلي، بل أعادت تثبيت التوازنات القائمة من خلال تقديم بعض التنازلات الشكلية التي لا تمس جوهر الأزمة.
ما حصل بعد الحرب الأخيرة لم يكن سوى إعادة توزيع للأدوار داخل المنظومة نفسها، وليس انقلابًا عليها. وطالما أن التعيينات في الدولة لا تزال خاضعة لمنطق الطوائف لا لمنطق الدولة
في ظل هذه المعطيات، يصبح من الصعب تصور أي تغيير جذري في الأفق القريب. بل على العكس، نحن أمام مرحلة جديدة من إدارة الأزمة بدلًا من حلها، حيث يتم ترميم النظام السياسي بدلًا من تغييره، مما يعني أن اللبنانيين قد يجدون أنفسهم أمام المشهد نفسه الذي عاشوه في السنوات الماضية، لكن بأدوات وخطابات مختلفة.
النتيجة: لا تغيير في الأفق… بل إعادة إنتاج للمنظومة
ما حصل بعد الحرب الأخيرة لم يكن سوى إعادة توزيع للأدوار داخل المنظومة نفسها، وليس انقلابًا عليها. وطالما أن التعيينات في الدولة لا تزال خاضعة لمنطق الطوائف لا لمنطق الدولة، فإن أي أمل بإصلاح حقيقي سيبقى مؤجلًا إلى أجل غير مسمى.
إقرأ أيضا: اسرائيل تكرس احتلالها للجنوب بغطاء اميركي..والحكومة محاصرة من «داخلها» قبل الخارج!
في هذا السياق، يبدو أن لبنان عالق في دائرة مفرغة، حيث تتكرر الأزمات نفسها، ومعها تتكرر الحلول نفسها، التي لا تعدو كونها محاولات للالتفاف على المشكلة بدلًا من حلها. وبالتالي، فإن اللبنانيين أمام خيارين لا ثالث لهما: إما القبول بالأمر الواقع والاستسلام لمنطق المحاصصة الطائفية، أو فرض معادلة جديدة تقوم على إعادة بناء الدولة من خارج المنظومة الحالية. ولكن، هل هذا ممكن في ظل الظروف الراهنة، أم أن التغيير الجذري سيبقى مجرد حلم مؤجل إلى إشعار آخر؟