اخبار لبنان
موقع كل يوم -أخبار لبنان
نشر بتاريخ: ٩ تشرين الثاني ٢٠٢٥
ترأس متروبوليت بيروت وتوابعها للروم الأرثوذكس المطران الياس عودة خدمة القداس في كاتدرائية القديس جاورجيوس.وبعد الإنجيل ألقى عظة قال فيها: 'يقدم لنا الإنجيلي لوقا في المقطع الذي سمعناه اليوم مشهدين متداخلين في عجيبة واحدة مزدوجة، أي شفاء المرأة النازفة الدم وإقامة إبنة يايرس من الموت. هذان الحدثان، وإن بدا أحدهما أعظم من الآخر ظاهريا، يكشفان سر الإيمان الحي الذي يمتلكه من يلامس المسيح فيستمد منه قوة الحياة الجديدة، لأن القوة التي تخرج منه تشفي وتحيي'.
أضاف: 'في مشهد النازفة الدم نرى النفس البشرية المتألمة التي أنفقت كل ما تملك على أطباء هذا العالم دون جدوى، إلى أن اقتربت من الرب يسوع من خلف الجموع، ولمست هدب ثوبه بإيمان عميق. هذه اللمسة هي لمسة النفس المتواضعة التي تؤمن بأن شفاءها لا يأتي من فضائلها ولا من استحقاقها، بل من محبة المسيح وحده، فاستحقت أن تسمع صوته العذب قائلا: «ثقي يا ابنة، إيمانك أبرأك، فإذهبي بسلام». أما في بيت يايرس، فيبدو أن الموت قد غلب، وأن الأمل قد انطفأ، لكن الرب يعلن بقوة: «لا تبكوا، إنها لم تمت، ولكنها نائمة». هكذا، يرفع المسيح الستار عن سر الحياة الأبدية، معلنا أن الموت ليس نهاية، بل عبور إلى حضوره الإلهي، وأن من يؤمن به «لن يرى الموت إلى الأبد» (يو ٨:٥١).ليست هاتان العجيبتان ذكرى ماضية، إنما صورة دائمة عن مسيرة الكنيسة وحياة كل مؤمن. فالمسيح لا يزال يستدعى إلى بيوت الحزانى، ولا تزال القلوب المريضة بالخطايا تحتاج لمس ثوبه، أي الإقتراب من أسرار الكنيسة، حيث تعطى نعمة الشفاء والغفران. كل نفس تقترب بإيمان صادق، ولو بخجل وتردد، تنال قوة الحياة الجديدة الخارجة من جسده ودمه الكريمين'.
وتابع: 'من هنا، يمكننا فهم عمق ما يقوله الرسول بولس في رسالة اليوم: «أما أنا فحاشى لي أن أفتخر إلا بصليب ربنا يسوع المسيح الذي به صلب العالم لي وأنا صلبت للعالم». اليوم نعيد للبار نكتاريوس أسقف المدن الخمس. الصليب الذي يتحدث عنه بولس هو ذاته الذي لمسه القديس نكتاريوس في عمق قلبه، فحمله بفرح وسط الظلم والإفتراء والإضطهاد. لقد شهر به باطلا، وطرد من كرسيه الأسقفي، واتهم ظلما، لكنه لم يتذمر أو يحقد، بل قال كما علم الرسول بولس: «فلا يجلب علي أحد أتعابا فيما بعد فإني حامل في جسدي سمات الرب يسوع ». هكذا صار القديس نكتاريوس صورة حية للمرأة النازفة الدم، التي لم تفقد الرجاء، ولأبي الفتاة يايرس الذي وثق بكلمة الرب رغم كل مظاهر الموت. لقد بقي صامدا في صمته، متكئا على الإيمان الواثق بأن المسيح وحده هو القادر أن يرد الحياة إلى من مات، وأن يقيم من الرماد قديسين وأنوارا للكنيسة.لم يشف القديس نكتاريوس من جراحاته الأرضية، لكنه حولها إلى ينابيع شفاء للآخرين. وكما قال هو نفسه: «إن التجارب هي مدارس الفضيلة، ومن يهرب منها يهرب من المجد». كان صليبه سر مجده، ومذلته طريق قداسته. حين كان يظلم كان يبارك؛ وحين يهان كان يشكر؛ وحين ينفى كان يسبح الله، فصار إناء للنعمة، وقد خرجت منه قوة الله، تماما كما خرجت من المسيح حين لمسته المرأة بإيمان'.
وقال: 'يدعونا إنجيل اليوم إلى الحفاظ على إيمان لا يتزعزع أمام الصمت الإلهي أو التأخير في الإستجابة. يايرس كان يرى إبنته تموت أمام عينيه، ومع ذلك سمع من الرب كلمة بسيطة: «لا تخف، آمن فقط فتبرأ هي». ونازفة الدم كانت مطرودة ومحتقرة بحسب الناموس، لكنها آمنت ولمست مصدر الحياة فنالت الشفاء. الإيمان الحقيقي، كما قال القديس نكتاريوس، «هو الثقة الثابتة بأن المسيح حاضر معنا في كل حين، وإن اختفى عن عيوننا بالجسد».في عالمنا المضطرب نرى كثيرين فقدوا هذه الثقة. فحين يطول المرض أو تعم الحروب أو تتأخر الإستجابة، يتسرب الشك إلى القلوب وتبرد المحبة. لكن الكنيسة، بمثال القديسين، تعلمنا أن ننتظر بصبر، لأن الرب لا يخذل المؤمنين به ولا يحجب عنهم محبته. وكما لم ينس نازفة الدم ولا إبنة يايرس، كذلك لا ينسى أحدا منا، إن كنا نلمسه بإيمان في الصلاة والإعتراف والإفخارستيا، فننال قوته الشافية. يقول القديس نكتاريوس: «المحبة الإلهية هي التي ترفع الإنسان فوق ضعفه، وهي التي تفتح عينيه ليرى يد الله تعمل في الخفاء». لقد رأى قديسنا يد الله تعمل في حياته في المنفى، فحول الغربة ديرا وسماء صغيرة، وصار مع بناته الروحيات نورا للكنيسة كلها، ومن جسده الذي ذاق العذاب خرجت بعد موته رائحة عطرة، كما خرجت قوة من المسيح، إعلانا أن القداسة هي نصيب من يثبت على الرجاء ولا يفتر إيمانه'.
أضاف: 'لقد عانى اللبنانيون كما عانت النازفة الدم في إنجيل اليوم. نصف قرن وأكثر من الصراعات والحروب وغياب الدولة عن أداء دورها حتى فقدت، إلى وجودها، هيبتها، بالإضافة إلى الإستهانة بالدستور والقوانين والأخلاق، والإنهيار المالي والفساد والجرائم والإغتيالات وانعدام المحاسبة. شبابهم وشاباتهم دفعوا دفعا إلى ترك وطنهم سعيا إلى بناء مستقبل مستقر وآمن. أموالهم هدرت، حياتهم استهين بها، مصيرهم هدد، وما زال عدم الإستقرار، وتباطؤ مسيرة الدولة، وتردد السلطة، واستمرار الوضع الشاذ يحول دون خرق الجدار المسدود واستعادة الإستقرار والأمان في ظل دولة تحمي الجميع وتتسع للجميع وتعامل الجميع بالمساواة والعدل والإنصاف. العالم كله سبقنا، حتى من كنا ندعي مساندتهم. محيطنا الذي كان يحسدنا على ما نحن عليه تقدم علينا وأصبحنا عاجزين عن اللحاق به. هل نبقى على هذه الحال من اللاإستقرار والتردد أم ندعو دولتنا للتشبه برئيس المجمع يايرس وبالمرأة النازفة التي بعد أن «أنفقت معيشتها على الأطباء» لم تتردد أو تتقاعس بل حزمت أمرها وقصدت الطبيب الإلهي الذي أبرأها؟ لو لم تتخذ الخطوة المناسبة لما نالت الشفاء. ماذا تنتظر دولتنا لتحزم أمرها وتتخذ الخطوات المناسبة من أجل إخراج لبنان واللبنانيين من حالة المراوحة واليأس إلى آفاق فجر جديد يحلم به الجميع؟'
وختم: 'دعوتنا اليوم أن نتعلم أن الإيمان ليس شعورا آنيا، بل مسيرة ثقة مستمرة. حين يبدو كل شيء ميتا، علينا أن نؤمن، وأن نصلي حين لا نسمع جوابا، وأن نحب حين نظلم، وأن نعمل بإرادة وعزم وإقدام ليستجاب طلبنا، وأن نحيا الصليب لنرث القيامة. هكذا فقط نستطيع أن نلمس المسيح ونشفى من كافة أسقامنا'.











































































