تحدّيات لبنان الاقتصادية بين اللائحة السوداء والإصلاحات المطلوبة: فصل السياسة عن الاقتصاد سبيل الخروج من الأزمة؟!

نوال أبو حيدر

في لحظة حسّاسة من تاريخه الاقتصادي، يقف لبنان أمام استحقاق قد يُشكّل نقطة تحوّل خطيرة في علاقته مع المجتمع المالي الدولي. أيام قليلة تفصله عن بدء سريان القرار الأوروبي القاضي بإدراجه على اللائحة السوداء، وهو إجراء لا يُمكن التقليل من تبعاته، خصوصاً في ظل استمرار وجوده على اللائحة الرمادية.

الانضمام إلى «القائمة السوداء» لا يعني فقط مزيداً من العزلة المالية، بل يُترجم عملياً بقيود صارمة على التحويلات، وتعقيدات في تعاملات البنوك اللبنانية مع المصارف الأجنبية، ما يُهدّد ما تبقّى من الحركة المالية في البلاد، ويقوّض أي فرص محتملة للاستثمار أو التعافي.

ورغم التحذيرات المتكررة، لا تزال السلطة السياسية تُراكم الإهمال وتغضّ الطرف عن الإصلاحات المطلوبة، في وقت تتجه فيه الدول والمؤسسات نحو إجراءات أكثر تشدّداً. من هنا، الأسئلة المُلحّة اليوم لا تتعلق فقط بكيفية مواجهة تداعيات هذا التصنيف، بل بما إذا كانت هناك إرادة سياسية حقيقية لإنقاذ ما تبقّى من الاقتصاد اللبناني، أم أن البلاد ماضية، بصمت قاتل، نحو مزيد من الانهيار والعزلة الدولية.

تداعيات إدراج لبنان على اللائحة الرمادية: مخاطر اقتصادية ومالية واسعة

في هذا السياق، يقول الباحث والكاتب الاقتصادي والسياسي، زياد ناصر الدين لـ«اللواء» إن «إدراج لبنان على اللائحة الرمادية يعدّ مسألة بالغة الدقّة والخطورة، خاصة في ظل الانقسام السياسي الحاد والأزمة البنيوية التي يعيشها البلد. وهذا يتطلب تعاملاً موحّداً ومسؤولاً من مختلف الأطراف، بعيداً عن الخلافات السياسية، لأن الجانب الاقتصادي لا يحتمل أي تباين في الرؤى أو التجاذب، نظراً لما يترتب على هذا التصنيف من تداعيات خطيرة وعميقة تطال مختلف القطاعات الحيوية في الاقتصاد اللبناني».

ويتابع: «فعندما يُدرَج بلد ما على اللائحة الرمادية، فإن ذلك يعني عمليا أن هذا البلد لا يُبدي تعاوناً كافياً فيما يتعلق بمكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب، ما يؤدي إلى فقدان الثقة الدولية به، وبمؤسساته المالية».

ويضيف: «في حالة لبنان، ستكون الانعكاسات مباشرة وواسعة النطاق، خصوصاً على قطاعات محورية كالتجارة الخارجية والاستيراد، حيث ان لبنان يعتمد على الاستيراد لتأمين حاجاته الأساسية. كذلك، ستتأثر عمليات التحويلات المالية من وإلى لبنان، ولا سيما عبر البنوك الأوروبية والمصارف المراسلة، التي قد تجمّد بعض المعاملات أو تشدّد إجراءاتها إلى درجة التوقف الكلي. ومن جهة أخرى، فإن تصنيف لبنان كبلد ذي مخاطر مرتفعة سيُضعف مناخ الثقة وسيُعزز المخاوف لدى المستثمرين المحليين والأجانب، ما سيؤدي إلى تراجع فرص الاستثمار، وبالتالي تفاقم الأزمات الاقتصادية والمالية. كما أن الجاليات اللبنانية في الخارج، التي تُشكّل أحد أبرز مصادر الدعم الاقتصادي من خلال تحويلاتها، قد تواجه صعوبات متزايدة في إيصال أموالها إلى الداخل، الأمر الذي يُفاقم الضغط على الاقتصاد الوطني ويفاقم معاناة اللبنانيين».

إصلاحات مالية مشروطة بفصل السياسة عن الاقتصاد

وفي سياق مرتبط، يعتبر ناصر الدين أنه «إذا جرى التعامل مع مسألة إدراج لبنان على اللائحة الرمادية من منطلق بعيد عن التجاذبات السياسية، فإن ذلك يُعدّ مؤشراً إيجابياً على أن لبنان قد أحرز تقدّماً في هذا الملف، ويدلّ على رغبة جدّية في الانخراط ضمن المعايير الدولية. لكن المخاوف تبقى قائمة من احتمال أن يتم تسييس هذا الملف، أي أن يُستخدم في البازار السياسي الداخلي، ما قد يؤدي إلى حرف النقاش عن جوهره الاقتصادي والتقني إلى مسارات سياسية تؤدي إلى مزيد من التعطيل والانقسام».

ويتابع: «أما إذا بقي البحث ضمن الإطار الاقتصادي البحت، فإن لبنان قد بدأ فعلياً بخطوات إصلاحية على هذا الصعيد، سواء اعتبر البعض هذه الخطوات كافية أو غير كافية، مؤثرة أو غير مؤثرة، فهي تمثّل على الأقل بداية لمسار إصلاحي مطلوب، ومن أبرز هذه الخطوات تعيين حاكم جديد لمصرف لبنان، وتشكيل مجلس مركزي للمصرف، إلى جانب إعادة تفعيل دور هيئة الرقابة على المصارف، وهي مؤسسات أساسية في البنية المالية للبلاد، وكان من الضروري إعادة تحريكها لتواكب المتطلبات الرقابية والشفافية المفروضة دولياً، ولتساعد في استعادة جزء من الثقة المفقودة في القطاع المصرفي اللبناني».

إصلاحات اقتصادية شاملة لإعادة الثقة والتوازن المالي

وأمام كل تلك المعطيات، يرى ناصر الدين أنه «المطلوب اليوم من الدولة اللبنانية يتجاوز الخطوات الشكلية أو الجزئية، ويكمن في ضرورة تنفيذ مجموعة من الإصلاحات الجوهرية والعميقة على أكثر من مستوى، بهدف إعادة بناء الثقة بالاقتصاد الوطني وتهيئة البيئة المناسبة للتعافي المالي والنقدي. فمن جهة، هناك حاجة ملحّة لإطلاق إصلاحات ضريبية شاملة تؤدي إلى نظام ضريبي أكثر عدالة وفعالية، وتُسهم في تحسين الإيرادات العامة دون تحميل الفئات الأضعف أعباء إضافية. ومن جهة أخرى، لا بدّ من إقرار موازنة عامة حديثة وشفافة تُراعي الواقع الاقتصادي والاجتماعي، وتُشكّل أداة فعلية لضبط الإنفاق العام وترشيده، كما يُشكّل تخفيض نسبة الاقتصاد النقدي (Cash Economy)، أي العمليات التي تتم خارج النظام المصرفي والرسمـي، أولوية قصوى».

ويتابع: «من الإصلاحات التي لا يمكن تجاهلها أيضاً، ضرورة توحيد سعر صرف الليرة اللبنانية، بما يُنهي التعددية السعرية التي تُربك السوق وتُفقد السياسات النقدية فعاليتها. وكذلك، يجب معالجة ملف التحويلات المالية، سواء المتعلقة بالمغتربين أو الشركات، بما يُعيد الانسيابية والثقة إلى التعاملات المالية عبر النظام المصرفي».

ويشدّد ناصر الدين على أنه «إلى جانب ذلك، يبقى رفع السرية المصرفية ضمن ضوابط القانون وتحت سقف المؤسسات القضائية خطوة ضرورية لتحقيق العدالة المالية، كما أن إعادة هيكلة القطاع المصرفي باتت أمراً لا مفر منه، بهدف بناء قطاع مصرفي أكثر صلابة وشفافية، تحسين أداء الجمارك وتفعيل الجباية الجمركية يُعتبر أيضاً من عناصر الإصلاح الأساسية، إذ يُساهم في مكافحة التهريب وتعزيز إيرادات الدولة بطريقة قانونية ومنظمة، ويجري حالياً العمل على استكمال تعيين الهيئات الناظمة لعدد من القطاعات، وهو أمر حيوي لضبط الأداء وتحقيق الحوكمة الرشيدة، خصوصاً في قطاعات استراتيجية مثل الاتصالات والطاقة».

العراقيل السياسية أمام الإصلاح

من هذا المنطلق، لا ينكر ناصر الدين أنه «على الرغم من كل هذه الخطوات، فإن التحدّيات التي يواجهها الاقتصاد اللبناني لا تزال كبيرة ومعقّدة، ويُعدّ الانقسام السياسي الداخلي أحد أبرز العوائق التي تُعطّل مسارات الإصلاح، مما يحتّم على الجميع تحمّل مسؤولياتهم للخروج من هذا المأزق العميق»، معتبراً انه «من الضروري التمييز بين المتطلبات القانونية المرتبطة بالتبادل المالي العالمي، خصوصاً ما يتعلق بالبنوك المراسلة وحركة الأموال عبر الحدود، وبين الإجراءات التنظيمية الخاصة بحركة الأموال داخل لبنان. كذلك، يجب الفصل بين إدراج لبنان على اللائحة الرمادية وبين القضايا الداخلية مثل قانون إعادة هيكلة المصارف والفجوة المالية، إذ إن لكل من هذه الملفات خصوصيته وانعكاساته المختلفة».

خروج لبنان من الأزمة الاقتصادية

من هنا، يختم ناصر الدين: «الواقع الاقتصادي في لبنان يتطلب الخروج من اللائحة الرمادية، خصوصاً وأنه قد نفّذ جزءاً من الإصلاحات المطلوبة وطبق عدداً من القوانين بالتعاون مع مصرف لبنان، وهو ما أكدته الهيئات الدولية والرقابية. لكن التقدم يتوقف على الفصل بين السياسي والاقتصادي، أما بالنسبة لمعالجة الاقتصاد النقدي (الكاش إكونومي)، فيجب أن تكون ضمن خطة اقتصادية شاملة تبدأ بضمان حقوق المودعين وتحديد مهلة زمنية واضحة لإعادتهم إلى النظام المصرفي، ما يُعيد الثقة ويُحرّك القطاع المصرفي، باعتبار أن الاقتصاد والتجارة لا يمكن أن ينتعشا دون قطاع مصرفي فعّال. أما الواقع المصرفي المتعثر حالياً فهو سبب رئيسي في تفاقم الأزمة».