الأزمة المزدوِجة في لبنان: صحة الإنسان والبيئة أمام حرائق الغابات

في الأشهر الأخيرة، شهد لبنان موجات متكررة من حرائق الغابات، امتدت من الشمال إلى المناطق الجبلية والجنوبية، تاركة وراءها آثارًا مدمرة على البيئة والحياة اليومية للمواطنين. هذه الحرائق ليست مجرد حوادث عابرة، بل أصبحت ظاهرة متكررة مرتبطة بالتغيرات المناخية، ارتفاع درجات الحرارة، والجفاف المستمر، ما يجعل لبنان أكثر عرضة للكوارث البيئية والصحية على حد سواء.

تتشابك في لبنان المخاطر الصحية والبيئية بشكل واضح، حيث يؤدي الدخان إلى مشكلات تنفسية حادة وأمراض مزمنة، بينما يؤدي تدمير الغابات والتربة إلى تدهور النظام البيئي والتنوع الحيوي. هذا الترابط بين صحة الإنسان والبيئة يجعل من الحرائق أزمة شاملة تتطلب تحركًا عاجلًا من الدولة والمجتمع المدني للحد من تأثيرها، وتحقيق حماية مستدامة للمواطنين والطبيعة على حد سواء.

التركيب الكيميائي لدخان الحرائق وتأثيره في الصحة

يحتوي دخان حرائق الغابات على جسيمات دقيقة PM2.5 وPM10، والتي تُعد صغيرة بما يكفي لتصل إلى الرئتين ومجرى الدم، مسببة تهيجًا شديدًا للجهاز التنفسي. إلى جانب ذلك، تحتوي الأبخرة على أول أكسيد الكربون، وأكسيدات النيتروجين، والمركبات العضوية المتطايرة، وهي مواد ضارة تقلل من قدرة الدم على نقل الأوكسجين، ما يشكل ضغطًا إضافيًا على القلب والأوعية الدموية. في لبنان، حيث يقطن السكان غالبًا بالقرب من المناطق الحرجية، يزداد تعرض الأطفال وكبار السن لهذه الجسيمات، مما يزيد من مخاطر الربو، والتهاب الشعب الهوائية المزمن، وأمراض القلب.

أما التعرض المزمن، فيرتبط بارتفاع احتمالية الأمراض المزمنة مثل السكري وارتفاع ضغط الدم وبعض أنواع السرطان، ويزيد من ضعف الجهاز المناعي، ما يجعل السكان أكثر عرضة للعدوى وأمراض الجهاز التنفسي العلوي. إضافة إلى ذلك، فإن دخان الحرائق يؤدي إلى تهيج العينين، الصداع، اضطرابات النوم، والدوخة، وهي أعراض شائعة بين سكان المناطق المتضررة.

الأثر البيئي لحرائق الغابات في لبنان

لا تقتصر خطورة الحرائق في لبنان على الصحة، بل تشمل تدمير النظم البيئية والتنوع الحيوي. فمع كل موجة حرائق، تتضرر مساحات واسعة من الغابات الصنوبرية والبساتين، وتفقد التربة خصوبتها بسبب احتراق المواد العضوية. كما تنتشر الانبعاثات الضارة في الهواء والماء والتربة، مسببة تلوثًا طويل الأمد، ويؤثر ذلك في الزراعة المحلية والموارد المائية، ما يزيد من المخاطر الغذائية والاقتصادية على المدى الطويل.

إضافة إلى ذلك، تؤدي الحرائق إلى تدهور التنوع البيولوجي، حيث تفقد العديد من الحيوانات موائلها الطبيعية، وقد تنخفض أعداد بعض الأنواع المهددة بالانقراض. كما أن انبعاثات الكربون خلال الحرائق تزيد من الاحتباس الحراري المحلي والعالمي، ما يزيد من احتمالية حدوث موجات جفاف إضافية ويضع لبنان أمام حلقة مفرغة من الكوارث البيئية والصحية.

الفئات الأكثر عرضة للخطر في لبنان

تتفاوت مخاطر التعرض لدخان الحرائق بين السكان بحسب العمر والحالة الصحية. فالأطفال وكبار السن هم الأكثر حساسية، نظرًا الى قوة التأثير المباشر في الجهاز التنفسي لديهم، بينما يعاني المرضى المصابون بأمراض مزمنة في القلب والرئة من تفاقم الأعراض وزيادة الحاجة إلى التدخل الطبي. كذلك تُعد النساء الحوامل فئة حساسة، إذ يمكن أن تؤثر الملوثات في الدخان في صحة الجنين، فيما يعاني العاملون أو السكان الذين يتنقلون في الهواء الطلق من مستويات أعلى من التعرض مقارنة بمن يبقون في أماكن مغلقة.

لمواجهة هذه المخاطر، يجب على السلطات اللبنانية والمجتمع المحلي اتخاذ إجراءات وقائية عاجلة، مثل تعزيز شبكات مراقبة جودة الهواء، وإطلاق تحذيرات مسبقة عند ارتفاع مستويات التلوث، وتوفير أجهزة تنقية الهواء وأقنعة طبية للسكان في المناطق الأكثر تضررًا. كما يمكن أن يسهم التشجير وإعادة تأهيل الغابات في تقليل تأثير الدخان على المدى الطويل، بالإضافة إلى حملات توعية لتعزيز السلوكيات الصحية خلال موجات الحرائق.

أخيراً، يظهر دخان حرائق الغابات في لبنان كتهديد مزدوج: صحي وبيئي. فهو لا يضر بالأشخاص فحسب، بل يترك أثرًا طويل الأمد على النظم البيئية، التنوع الحيوي، والموارد الطبيعية للبلاد. ومع استمرار موجات الجفاف وارتفاع درجات الحرارة، يصبح من الضروري التعامل مع الحرائق ليس فقط كحوادث موسمية، بل كأزمة بيئية وصحية متكاملة تتطلب خططًا وقائية واستراتيجيات طويلة المدى لحماية الإنسان والطبيعة معًا.