اخبار لبنان
موقع كل يوم -جريدة اللواء
نشر بتاريخ: ١٥ تشرين الثاني ٢٠٢٥
لملم الصيف آخر مواسمه، وأتى الخريف بأوراقه الصفراء المتناثرة، تكسو الشرفات والطرقات، ولكن خريف العمر بدا يميل إلى المنحنى، تذكار، ثم تخيّل أيام عمرنا سراباً أو سرساباً في بعض الأحيان. وبدأنا نعدّ العدّة للرحيل إلى زمن آخر أو عالم آخر ترتسم حوله تساؤلات هشّة بعضها يلقى أجوبة مقنعة والبعض الآخر يقف على حدود الذاكرة المتصدّعة المجمّدة بالغفوة الآتية من رحم الماضي تطلعنا على نافذة مطلّة على المستقبل القائم، هكذا يبدو الجو مظلماً حتى إشعار آخر، قد يحمل معه بشائر خير وتفاؤل حذر أقلّه للمدى المنظور...
مضى على تقاعدي من السلك العسكري سبع سنوات وقد خدمت في الجيش اللبناني نيّفا وست وثلاثين عاما، مضت الساعات والأيام والأسابيع والشهور، فمن الكلية الحربية (سنتان وثمانية أشهر) تخرّجت برتبة ملازم في سلاح المشاة في 1/8/1986 وشُكّلت إلى اللواء السابع وتنقّلت على خطوط التماس إبان الحرب المشؤومة، من عيون السيمان وصنين إلى المدفون في العام ١٩٨٩ إلى الجنوب الزهراني، النبطية (كفر رمان - نبع الطاسة - المصيلح)، وبعد ذلك انتقلت إلى صور حيث كان مركزي في إستراحة (صور) التابعة لوزارة السياحة: تعرّفت على معظم المناطق اللبنانية حين كانت نهايات الخدمة الطويلة، ١٤ عاما في شمالي لبنان من سمار جبيل الى القبة - طرابلس..
وها أنذا وقد بلغت الثانية والستين من سنوات العمر - بين الألم والأمل بين الابتسامة والدمعة، بين الخجل من التاريخ والافتخار به وفق مراحل جمعت التناقضات من كل حدب وصوب.. جنى أعمار آلاف مؤلفة من موظفي القطاع الخاص والعام على السواء، هذا الجنى اندثر وكاد يتلاشى مع عمر من الخيبات الجزئية والآمال القليلة.
جنى العمر مسلوب ومن عنوانه يقرأ المكتوب، وعود بالحلّ الذي لن يأتي على جناح السرعة دون استقرار أمني وسياسي فلا اقتصاد مزدهر دون أمن ووفاق سياسي، أُحلت على التقاعد في العام ٢٠١٨ آملاً بجمع مؤلفاتي وممارسة هواياتي المفضّلة وسط بعض اليسر للإهتمام بأبنائي الذين ما زالوا في الجامعة، فإذا بالإنهيار الاقتصادي يدقّ أبوابنا وحرمنا راحة البال ورغد العيش، لكن الأمل لا زال يلوح كنور الفجر الذي يكبر ويكبر حتى الصباح البهيّ والنهار المشرق، قديماً قيل: «ما أضيق العيش لولا فسحة الأمل»، وأيضاً: «أليس الصبح بقريب»... علينا أن ننتظر لنرى...
ترتجف شفتي، وينحني جبيني أمام ذكريات العقد الرابع التي شرعت بالابتعاد مع تناثر أوراق الشجر في الخريف، ذكريات ماثلة أمام عيني، مثول الأشباح المعلقة بضباب آتٍ مع الرياح تتلاشى رويداً رويداً، لكنها تتراكض أحيانا لتهرب من التلاشي المحتّم الذي نخاف منه ومن ما لا يخافه؟!..
يقول المثل الشعبي القديم: «من يزرع الربيع يحصد العاصفة»، أما أنا فأقول أيضا هذا المثل الذي كان يردّده والدي رحمة لله: «لا تكره شيئا لعلّه خير»، إنني أهرب من هذا الواقع المزري المأساوي بكل مرارته والألم، أهرب إلى تدوين خواطري، واحة غنّاء في صحراء حياتي القاحلة، تبتعد الهوينا كلما جفّ المراد المدام والدم والنبع، من هنا وهناك نحاول تناول الكثير من المواضيع، فندور في دوامة مزعجة تردّنا إلى البدايات فليس لنا سوى الاعتصام بحبل الصبر، بالإيمان والرجاء.. ننطلق منها لمتابعة الطريق، دربا مكلّلاً بالشوك على فوح رائحة الظهر الذي نظنه قريباً، لكنه مع الأسف لم يزل یبتعد ويبتعد حتى يضمحل ويمشي.
عاد البطل من المعركة بعد أن خسر رجله في لغم أرضي من صنع أناس مثله، عاد يحمل قدمه بين ذراعيه فلم يلتقِ بمن يحمل الأمل إليه، لكنهم غرزوا في جرحه خنجراً قاتلاً فسال دمه وتم الإستيلاء على جنى عمره وتعبه، رأيته ذات يوم ووجدت فيه ملاذي وهو الذي شجّعني على طول الأناة، رغم وجعه والآنّات، فتصافحنا وبدأت الدموع تنهمر من عينيه قائلاً لي: لقد كانت حربا عبثية ليس إلّا. وبعد ذلك اختفت ملامحه في المجهول.











































































