اخبار لبنان
موقع كل يوم -جريدة اللواء
نشر بتاريخ: ١٧ حزيران ٢٠٢٥
تندرج لوحات الفنان صالح الهجر في تيار «الحروفية العربية»، وهو تيار فني وُلد في خمسينيات القرن العشرين كردّ على الاستلاب الثقافي الذي صاحب الحداثة الغربية. وقد سعى روّاده إلى تحويل الحرف العربي من مجرد وسيط لغوي إلى كائن بصري وجمالي مستقل، يُغني اللوحة ويمنحها طاقة روحانية وهوية بصرية شرقية. تدخلنا لوحات الفنان صالح الهجر في لب هذا التيار خطوة أبعد، لا باستخدام الحرف فحسب، بل بجعله مركزاً وجوهراً لذاته. فهو لا يعرض علينا نصاً قابلاً للقراءة، بل تجربة حسّية، رمزية، وروحية، تنفتح على التأويل من غير أن تُغلق على معنى محدّد. فهل اللون في لوحاته هو لغة ما وراء الحرف؟
تغمر لوحاته درجات الأزرق المتماوجة، من النيلي العميق إلى السماوي الهادئ، وكذلك الألوان الأخرى بميزة تدرّجاتها التي ترفع من قيمة التأمّل في تدرّجات تُذكّرنا بسطح بحر صوفي، أو سماء ليل مضمّخ بالتأمّل. اللون هنا ليس زينة سطحية، بل حامل للحالة الشعورية. فالأزرق، في الثقافة الصوفية، يرتبط بالصفاء، والتسامي، والانخطاف الروحي. كأن اللوحة كلّها نافذة على عوالم داخلية، يحرسها هذا الأزرق المترقرق كأنفاس المتصوّفة في حضرة الحبّ الإلهي. والأبيض، في المقابل، يُستخدم بشكل حاذق لإبراز الكلمة المركزية: «هو الحبّ». هذا التباين بين الأزرق والأبيض ليس فقط جمالياً، بل أيضاً رمزياً. الأبيض يشرق من قلب الأزرق، كما يشرق المعنى من بحر الحروف، أو كما يسطع النور في قلب المتأمّل. فهل الحرف ينقلنا من بناء لغوي إلى طاقة تشكيلية؟
الحرف العربي في هذه اللوحة ليس جماداً، بل كائن حيّ. نراه ينساب، يلتفّ، يتكاثف، ويتناثر كما لو كان جسداً راقصاً أو ذبذبة صوت. تتداخل الحروف، بعضها متحرّر وبعضها متراصّ، بأحجام وزوايا متباينة، لتشكّل طيفاً بصرياً نابضاً بالحركة. لا تكاد تستطيع القبض على كلمات واضحة سوى «هو الحبّ»، وهو ما يعزّز من شعور الغموض والتأمّل. هذا التكوين المتموّج يذكّرنا بتجربة صوفية، حيث تبدأ العبارة المعلومة («هو الحبّ») كنقطة انطلاق، ثم تنفلت منها المعاني، وتتلاشى الحدود بين الذات والموضوع، بين الحرف والمعنى، فيغدو العمل كلّه رحلة نحو المجهول. فهل المعنى الرمزي هو الحبّ كمصدر للحركة؟
في المركز، تتوسّط اللوحة عبارة «هو الحبّ»، وكأنها القلب النابض الذي تشعّ منه بقية الحروف. هذا الترتيب ليس عشوائياً. فالحروف الأخرى تبدو كأنها تتفجّر أو تنساب من هذه العبارة المحورية، في تموّجات دائرية، تشبه الطاقات الكونية أو دوائر الذكر الصوفي. هنا لا يعود الحبّ مجرد موضوع، بل يصبح المبدأ الأول، المصدر، والغاية. إنه ما يُحرّك اللوحة ويُفعّلها، كما يُحرّك الوجود ذاته. فالحروف، التي تمثل اللغة والمعنى، لا تستمد حياتها إلّا من هذا المركز العاطفي - الروحي. وكأن صالح الشاعر يردّد مع ابن عربي: «الحب ديني وإيماني». ولتوقيعه بخط دقيق سحر التكوين. التوقيع ليس فقط إثبات ملكية، بل أيضاً تأكيد على معاصرة التجربة. فنحن أمام أعمال حديثة وُلدت من رحم اللحظة الراهنة، لكنه ينهل من إرث بصري وروحي عريق. إنه امتداد حيّ للخط العربي، وليس مجرّد تكرار زخرفي. فهل يصبح الحرف صلاة في لوحات صالح الهجر؟
يُرافق الأبيض لوحات صالح الهجر كضوء ينبثق من عمق الظلال، يضيف توازناً ونقاءً إلى حركة الخطوط التي تطوف برشاقة في فضاء اللوحة. هذه الخطوط ليست مجرد حروف، بل أشبه بأشكال راقصة تتناغم مع فراغات اللوحة، فتخلق إيقاعاً بصرياً متناغماً، ينبع من معايير حروفية دقيقة ومتقنة. من هذا الانسجام البصري تنبثق مفاهيم جمالية متعددة، لا تقتصر على جمال الخط ذاته، بل تتعدّاه إلى ما يشبه لغة جديدة تتحدث بها اللوحة عبر حركات الخطوط وتداخل الألوان، لغة تحلّق بين الرؤية والتأمّل، وتفتح آفاقاً واسعة للتفاعل مع العمل الفني. هنا، يصبح الحرف ليس فقط أداة كتابة، بل تجربة بصرية تنسج حكايات لا تُقال بالكلمات، بل تُحسّ وتُستشعر.
من هذه الرشاقة الحركية تنشأ مفاهيم جمالية تتجاوز وظيفة الحرف اللغوية التقليدية، لتتحوّل إلى لغة بصرية متجددة تتحدث عن التفاعل بين الشكل واللون، الضوء والظل، الثبات والحركة. فالحرف هنا ليس فقط رمزاً يُقرأ، بل كيان حيّ ينبض بالحياة، ينساب ويحتضن الفضاء، يخلق حواراً ديناميكياً بين الأشكال والعناصر داخل اللوحة. إنه إيقاع روحي مرئي، يفتح نوافذ للتأمّل الذاتي، حيث تصبح كل لوحة رحلة بصرية تذوب فيها الحدود بين الحرف والصورة، بين الخط والمعنى، وتتلاقى فيها الأصالة مع الحداثة في مشهد فني مدهش.
لوحات ساحرة، فكل لوحة ليست فقط فناً تشكيلياً، بل تجربة تأمّلية. إنها مرآة يتأمّل فيها المُشاهد ذاته، ونافذة يطلّ منها على جماليات الحرف، وطاقات اللون، وعوالم الروح. إنها مثال حيّ على قدرة الفن العربي على التجدّد، وعلى أن يظل حاملاً لرسالته الحضارية والروحية، حتى في أكثر الأشكال التجريدية.
معرض صالح الهجر في غاليري الأفينوز الكويت وينتهي في 31/6/2025