اخبار لبنان
موقع كل يوم -جريدة الديار
نشر بتاريخ: ١٠ أيار ٢٠٢٥
في لحظة تاريخية تُعاد فيها صياغة العالم بأدوات الذكاء الاصطناعي، وتُختبر جدّية الأنظمة التربوية في مواكبة التحوّلات، يشهد لبنان ورشة وطنية لتطوير المناهج بعد أكثر من عقدين من الجمود، وسط توقعات بإطلاقها تدريجيًا في أواخر العام الدراسي المقبل. تؤكد الورشة أهمية إكساب المتعلمين الكفايات الرقمية كشرط للاندماج في العصر الرقمي. لكن مصير الذكاء الاصطناعي لا يزال غامضًا: هل سيدخل الصفوف كمنهج حي، أم يبقى مجرد مصطلح عصري في هوامش الإطار الوطني للمنهاج؟
القلق لا يقتصر على التأخّر، بل على احتمال أن تتحول الرقمنة إلى واجهة شكلية تخفي بنية تقليدية لا تمس جوهر التعليم.
والسؤال: هل تُكتب المناهج بوعي تحولات الذكاء الاصطناعي، أم بعقل قديم يعيد إنتاج 'مناهج حديثة' بمفردات منتهية الصلاحية؟ وهل يُعقل أن نُعلّم أبناءنا مهارات الأمس، بينما يُصاغ المستقبل بالخوارزميات والنماذج التنبؤية؟
رغم وتيرة العمل السريعة على تطوير المناهج اللبنانية، كما يظهر إعلاميًا، تبقى الرؤية التربوية الشاملة غير واضحة، خصوصًا تجاه تحديات الذكاء الاصطناعي. المهارات المطلوبة لا تزال غامضة، والسؤال الجوهري حول معنى 'المعرفة' في عصر الوصول الفوري للمعلومة لم يُطرح بعمق. كما تغيب المعالجة الجدية لأخلاقيات الذكاء الاصطناعي، وحقوق الملكية، والتفكير النقدي في بيئة تنتج فيها الخوارزميات المحتوى. الخشية أن تتحول المناهج إلى تجميل لغوي، تُضاف فيه عبارات مثل 'التحول الرقمي' دون طرح الأسئلة الحقيقية: كيف نُعلّم التحقق والمساءلة في زمن المعلومات الزائفة؟ كيف نُعدّ الطالب لعالم تُديره الخوارزميات؟ وما المهارات والبنية التحتية اللازمة لتأهيل جيل يفهم هذا العالم، لا يستهلكه فقط؟
ففي عالم يُعيد صياغة الإنسان، حيث تتحكم الخوارزميات بالوعي والسلوك والقيم، لم يعد السؤال: هل ندخل الذكاء الاصطناعي إلى المناهج؟ بل: كيف؟ متى؟ وبأي عمق ورؤية تربوية وأخلاقية؟ هل نتعامل معه كأداة تقنية، أم كأفق يعيد تعريف المعرفة والتعلّم؟ وهل ننتظره حتى تكتمل المنظومة لنضيفه شكليًا، أم نعيد بناء المنهج من داخله؟ الأخطر أن يُحصر في مادة واحدة بدل أن يتحوّل إلى كفاية مستعرضة تتقاطع مع مختلف الحقول، من الرياضيات إلى اللغة، ومن الاجتماعيات إلى الفنون، ليشكّل بذلك بنية تفكير لا مجرد محتوى إضافي.
في الوثيقة الرسمية للمركز التربوي للبحوث والإنماء، يقرّ الإطار الوطني لمنهاج التعليم ما قبل الجامعيّ في الصفحة 55 بأهمية تقانة المعلومات والاتصالات كأحد دوافع تطوير المناهج، ويشير إلى ضرورة تنمية كفايات المتعلم، بما يشمل تطبيقات الذكاء الاصطناعي.لكن هذا الذكر لا يرتقي إلى خطة تربوية واضحة، إذ يُدرج الذكاء الاصطناعي ضمن 'المعرفة الرقمية' في خانة 'القضايا المتقاطعة'، دون تحديد للمهارات المطلوبة، أو صلتها بالتفكير الحاسوبي، أو التعامل مع الخوارزميات والمحتوى المُولَّد آليًا، ولا يحدّد السياقات التعليمية. كما لم يُحوَّل إلى كفاية مستعرضة تُدمج في جميع الحقول. فبينما أُدرجت الرقمنة وتكنولوجيا المعلومات ضمن كفايات التفكير والتعليم، غاب الذكاء الاصطناعي كليًا. والفرق بينهما كبير: الرقمنة تعني تحويل الأدوات إلى صيغ رقمية، أما الذكاء الاصطناعي فيُعيد تشكيل التعلم ومفهوم الكفاية، ويغيّر أدوار المعلّمين، وأساليب التقييم، ومتطلبات سوق العمل. الإطار يعترف بوجود الذكاء الاصطناعي، لكنه يضعه، كما يبدو، في الهامش المفاهيمي، لا في صلب المنهج، وكأنه بند تقني ثانوي، لا مفهوم يعيد تشكيل الإنسان، والسوق، والاقتصاد، والهوية، وإطار التفكير التربوي للعصر القادم.
صحيح أن بعض اللجان المكلّفة بتطوير الحقول التعليمية أظهرت إشارات واعدة ووعيًا أوليًا بهذه التحوّلات، إلا أنها تبقى غير كافية. في لجنة التُقانة الرقمية، برز توجه لبناء متعلّم منتج رقميًا، مع وعود بإدماج الذكاء الاصطناعي وإنترنت الأشياء، لكن مع اعتراف بوجود فجوات بنيوية وغياب العدالة في البنية التحتية، ما قد يجعل المنهج حلمًا على الورق وكابوسًا للمدارس المهمّشة. أما لجنة الجغرافيا، فتحدّثت عن الرقمنة وتطبيق GIS والخرائط التفاعلية، ما يفتح المجال لتحليل البيانات الضخمة، لكن دون إدراج الذكاء الاصطناعي كأداة تحليل أو محاكاة أو توليد سيناريوهات مكانية. جغرافيا أكثر حداثة، لكن بلا خوارزميات.
وفي منهج اللغة الفرنسية، طُرحت مهارات التفكير النقدي والتعلّم مدى الحياة والتكيّف مع مواقفها، والإشارة إلى أهمية مهارات الذكاء الاصطناعي، لكن دون توضيح لآليات دمج اللغة مع أدواته التوليدية، أو تدريب الطلاب على فهم النصوص المولَّدة آليًا وتحليل الخطاب الرقمي ونقده.
رغم بعض المؤشرات الإيجابية، يبقى غياب خطة شاملة وتكامل بين الحقول مقلقًا. فالمشكلة قد لا تقتصر على ضعف إدماج الذكاء الاصطناعي في المواد المتخصصة، بل تمتد إلى تجاهل تحويله إلى كفاية مستعرضة. فالذكاء الاصطناعي لم يعد موضوعًا تقنيًا فحسب، بل أداة تحليل وتعبير وفضاء معرفي مستقل، يجب أن يحضر في الفيزياء والكيمياء والرياضيات كوسيلة لتحليل البيانات، ومحاكاة التجارب، وحل المعادلات المعقدة، ما يحوّل المفاهيم المجردة إلى خبرات تعليمية ملموسة. وفي الجغرافيا، يمكن توظيفه لتحليل البيانات المكانية ومحاكاة الظواهر البيئية؛ وفي اللغات لفهم النصوص المولَّدة وتحليل الخطاب؛ وفي التربية المدنية لتعزيز الوعي السيبراني وكشف التضليل الرقمي؛ وفي الاقتصاد لتفسير الأنماط السوقية والتنبؤ بالاتجاهات؛ وفي الفلسفة لطرح أسئلة حول أخلاقيات التقنية وحدود العقل الخوارزمي؛ وفي التاريخ لتفكيك الروايات الأيديولوجية وتحليل السرديات؛ وفي الطبيعيات لمحاكاة الظواهر العلمية؛ وفي الاجتماع لتحليل الاتجاهات السلوكية واستخلاص الأنماط المجتمعية.
تأتي ورشة تطوير المناهج في وقت أصبح فيه الذكاء الاصطناعي محورًا استراتيجيًا عالميًا، تتسابق الدول لإدماجه تربويًا برؤى متعددة. الصين فرضت تدريسه للأطفال من عمر ست سنوات، ضمن خطة لترسيخ التفكير الخوارزمي مبكرًا، مدعومة ببنية تحتية متكاملة وشراكات تكنولوجية كبرى. الإمارات جعلته حقًا تربويًا، ودمجته تدريجيًا من الروضة حتى الصف الثاني عشر، ضمن منهج يؤهل التلامذة لهندسة الأوامر وتطبيقات الحياة، في إطار 'رؤية 2071'. .أمّا الولايات المتحدة، فحوّلته إلى خيار وطني استراتيجي بقرار رئاسي (نيسان 2025)، يدمجه في جميع المراحل، بالتعاون مع كبرى الشركات، وتدريب موسّع للمعلمين، لتُصبح المدرسة بيئة خوارزمية مسؤولة.فنلندا اعتبرته حقًا معرفيًا، ودمجته ضمن العلوم الرقمية والتفكير النقدي، عبر برنامج مجاني عالمي، بينما أدرجته سنغافورة في خطة وطنية من الابتدائي حتى مشاريع المدن الذكية، مع ربط التقنية بالأخلاق والفلسفة.أما 'إسرائيل'، فاعتبرته مشروعًا أمنيًا، تستخدمه لتدريب الطلاب على التحليل السيبراني وبناء نماذج تجسسية، وتحويل المدرسة إلى منصة لصناعة 'جنود رقميين'.
في خضم هذا التحوّل العالمي العميق، حيث تجمع التجارب بين الاستباق، والبنية التحتية، والفلسفة الواضحة، وتتعامل مع الذكاء الاصطناعي كأفق معرفي وسيادي يعيد تشكيل دور التعليم والإنسان، نخشى أن يكتب لبنان مناهجه بعينٍ على الورق، لا على المستقبل. فغياب الذّكاء الاصطناعي كمنهجية تربوية واضحة أو كفاية مستقلة لا يُعبّر فقط عن تأخر تقني، بل عن غياب رؤية في زمن يُعاد فيه تعريف وظيفة المدرسة، ودور المعلم، وهويّة المتعلم.
لسنا بحاجة إلى 'مناهج جديدة' بقدر ما نحتاج إلى رؤية جديدة للتعلّم تعترف بأن الطفل لم يعد متلقيًا، بل صانعًا لمسار تعلمه، وأن المعلم لم يعد ناقلًا للمعرفة، بل ميسّرًا للتفكير. فلم يعد مقبولًا أن يتدرّب طفل صيني في السادسة على الخوارزميات، وطفل إماراتي على هندسة الأوامر، بينما طفل لبناني في العمر نفسه لا يُعرّف حتى بمفهوم الذكاء الاصطناعي. وليس مقبولًا أن يُنجز طالب إماراتي مشروعًا في تحليل سلوك المستخدم، بينما ينتظر نظيره اللبناني قرارًا رسميًا بإدراج المفهوم في مناهج لم تولد بعد، ولا أن تُربّي 'إسرائيل' أطفالها على التفكير الخوارزمي وتصنيع أدواتها داخليًا، بينما يُخرّج لبنان طلابًا قد لا يعرفون حتى ما هو 'النموذج اللغوي الكبير'.
لذا نتساءل: كيف نُعدّ تلميذًا لجامعة أو سوق عمل في 2030 إن لم نعلّمه كيف يُحلّل خطابًا تولّده الخوارزميات، أو يميّز بين الحقيقة والتضليل؟ كيف نحميه من التلاعب المعرفي إن كنا نحن لا نفهم أدوات هذا العصر؟ الرهان الحقيقي: هل نُنشئ جيلًا مستهلكًا للتكنولوجيا، أم مشاركًا في صناعتها؟ هل نربّيه على الطاعة الرقمية، أم على التمرّد الخلّاق؟ هل نعلّمه فقط 'كيف يستخدم الأدوات'، أم 'لماذا وعمّا يبحث'؟.
من دون هذه القفزة الفكرية، ستبقى المناهج مجرّد تحديث شكلي يُعيد إنتاج التخلّف بثياب رقمية. والتاريخ، كالعادة، لن يرحم من أضاع لحظة التحوّل. ما نحتاجه ليس تعريفًا للذكاء الاصطناعي، بل نقلة في البنية العقلية التربوية: من تعليم تراكمي إلى تعليم تحويلي، ومن مناهج تنقل المعرفة إلى أخرى تُفكّك الخوارزمية، تحاكمها، وتعيد إنتاجها.
ليست المسألة في لبنان أننا لا نعرف أهمية الذكاء الاصطناعي. المشكلة أننا نعرفه، ونعرف أننا متأخرون عنه، لكننا نكتب مناهجنا كما لو أن بإمكاننا اللحاق به لاحقًا. لكن 'اللاحقًا' لن تأتي. لأن الذكاء الاصطناعي لا ينتظر، ومن لا يتقنه الآن، سيُقصى من الاقتصاد، والإنتاج، والحماية، والنقد، وحتى التعليم. العالم لا ينتظرنا. والصين، الإمارات، فنلندا، سنغافورة، الولايات المتحدة، وحتى 'إسرائيل'، كتبت مناهجها بروح هذا العصر، لا بمنطق الحذر. في تلك الدول، الذكاء الاصطناعي ليس أداة تعليم، بل بوصلة معرفية تعيد رسم علاقة الطالب بالمعلومة، وبذاته ومحيطه. أما في لبنان، فلا يزال السؤال يُطرح بتردد: هل نُدرّسه كمادة؟ أم ندمجه في المقررات؟ أم نكتفي بالإشارة إليه ككفاية؟
في النهاية، كل دولة تكتب مناهجها كما ترى نفسها في المستقبل. فهل نريد أن نكون مجرد دولة 'تتكيّف'؟ أم دولة تعلّم أبناءها أن يفهموا، يصمّموا، وينتقدوا أدوات هذا العالم الجديد؟ السؤال لم يعد: هل نُدرّج الذكاء الاصطناعي في المناهج؟ بل: هل نملك الإرادة لرؤيته كأداة سيادة وطنية؟ هل سنكون من يصنعه، أم من تُعيد الأدوات صناعته؟ والسؤال الكبير لصانعي القرار التربوي: هل نريد لمناهجنا أن تُنتج أبناءً ينافسون، يبتكرون، ويواكبون؟ أم نريدها أن تستمر في إخراج أجيال تنتظر ما يصنعه الآخرون لتستهلكه؟