اخبار لبنان
موقع كل يوم -جريدة اللواء
نشر بتاريخ: ٣ تشرين الأول ٢٠٢٥
يعيش مرضى السرطان في لبنان مأساة متواصلة منذ سنوات، فالأزمات الاقتصادية والمالية والسياسية انعكست بشكل مباشر على القطاع الصحي، تاركة آلاف المرضى يواجهون الموت بغياب الدواء أو بتكاليف استشفائية لا قدرة لهم على تحمّلها. وفي ظل هذا الواقع، تتعدد صرخات المرضى وذويهم، لتكشف عن معاناة يومية قاسية، يقابلها جهد استثنائي لبعض المبادرات الفردية والجمعيات، وسط محاولات من وزارة الصحة لإعادة تنظيم هذا الملف المعقّد.
أزمة متفاقمة
لم يعد الحديث عن مرض السرطان في لبنان مجرد قضية صحية، بل أصبح قضية إنسانية واجتماعية بامتياز، إذ بات المريض رهينة نقص الدواء وغياب الدعم المالي والضمانات الفعّالة. وتفاقمت الأزمة مع انهيار العملة الوطنية وارتفاع سعر صرف الدولار، ما جعل ثمن الأدوية يفوق قدرة معظم العائلات، في وقت تُترك فيه الفئات الأكثر هشاشة لمصيرها.
الأدوية بين الفقدان وعودة جزئية
على الرغم من محاولات وزارة الصحة تنظيم عملية الاستيراد عبر المنصة الإلكترونية «أمان»، لا تزال كميات الأدوية غير كافية لجميع المرضى. فالأدوية تتوفر لبعض الأنواع بينما تبقى أخرى مفقودة، ما يضطر المرضى إلى شراء بدائل باهظة الثمن من السوق السوداء أو التوقف عن العلاج، وهو ما يؤدي في حالات كثيرة إلى تدهور الحالة الصحية أو الوفاة المبكرة.
واقع الضمانات الصحية
يُعتبر غياب دور الجهات الضامنة عاملاً أساسياً في تفاقم الكارثة. فالضمان الاجتماعي الذي يتقاضى اشتراكاته بالدولار لم يؤمّن بعد التغطية الكاملة لأدوية السرطان، فيما بقيت جهات ضامنة محدودة مثل قوى الأمن الداخلي تقوم بتأمين بعض الأدوية. أما معظم المواطنين، فيواجهون الاستشفاء بلا أي شبكة أمان اجتماعي.
البروفيسور جان الشيخ
أكد البروفيسور جان الشيخ أن الأرقام المخيفة للسرطان في لبنان تفاقمت وتكاثرت الأزمات معها، فأصبح مرضى السرطان «رأس جبل الجليد الظاهر»، لكن الأزمة – بحسب رأيه – «عميقة جداً جداً ومترسّخة في جذور هذه الدولة وفسادها وفساد الهيئات الضامنة، التي تركت المريض اليوم مكشوفاً صحياً أمام مرض لا ينتظر، ولا يميّز بين طائفة وأخرى ولا بين كبير وصغير».
وأضاف أن هناك تطوراً كبيراً في العالم للأدوية السرطانية غير الكيميائية، التي تُعطى بشكل موجّه عبر حبوب أو تحت الجلد، وتؤدي إلى كسر السبب الجيني المسبب للأمراض السرطانية، مشدّداً على أن هذه الأدوية تعطي نسبة شفاء مرتفعة جداً. وتابع: «لازم دائماً نكون متمسّكين بالأمل والتفاؤل العلمي المبني على أسس واضحة وأرقام مثبتة، وليس على عشوائية وتخويف يفاقم من عدم الاستقرار الأمني والسياسي والصحي».
ووجّه الشيخ التحية لمرضى السرطان «الصامدين والمقاومين الذين يحاربون مع أهلهم للحصول على حبة الدواء وهي في الأساس حقهم»، مشيراً في المقابل إلى أن «وزارة الصحة والوزير الدكتور ركان ناصر الدين يقومان بعمل جيد وكبير رغم الصعوبات».
وأوضح أنه بين عامي 2019 و2024 كانت وزارة الصحة مكشوفة مادياً وتلقّت مساعدات من أدوية غير واضحة الفعالية ومن مصادر غير موثوقة، لكن «الوضع الآن اختلف وأصبح هناك ليونة وسياسة جديدة لمساعدة المرضى الذين يمثلون 80% من الفئة غير القادرة على العلاج وغير المضمونة، وحتى الفئة المضمونة تصل أحياناً إلى مكان تصبح فيه عاجزة عن متابعة العلاج».
وختم الشيخ بالتأكيد على أن المطلوب اليوم «مقاربة صحية اقتصادية واضحة تؤمّن الاستشفاء لمرضى السرطان بضمان 100%، لأن النسبة الأكبر من الشعب اللبناني غير قادرة على تلقّي العلاج. مريض السرطان من حقّه أن يتعالج بكرامة وأن يكون علاجه مجانياً وتلقائياً، والأهم تأمين الأدوية الفعّالة»، معتبراً أن جميع أمراض السرطان قابلة للشفاء إذا تلقّى المريض التشخيص والعلاج الصحيح.
الدكتور هاني نصار
من جهته، أوضح الدكتور هاني نصار أن واقع أدوية السرطان في لبنان كان مأساوياً، لافتاً إلى أن «الأدوية لم تتغيّر من حيث المصدر أو النوعية، لكنها كانت فجأة مفقودة». وأضاف: «اليوم، مع تطبيق نظام الرقمنة والمنصة الإلكترونية «أمان»، عاد جزء كبير من هذه الأدوية».
وأكد نصار أن السرقة والفساد كانا واقعاً حقيقياً، موضحاً أنه «كان يتم تخزين الأدوية في الوزارة أو مستودعاتها وبيعها بطريقة غير شرعية، حيث كان الحزبيون والمحاسيب يحصلون عليها مجاناً، بينما الآخرون يتركون لمصيرهم».
وأشار إلى أنه بفضل النظام الإلكتروني «تقلّص الهدر والسرقة، وأصبح كل مريض يحصل على دوائه وفق بروتوكول واضح، حيث يرسله الطبيب مباشرة عبر المنصة».
ولفت إلى أمثلة عن التحسّن: «دواء لسرطان الثدي كان ثمنه 2800$، واليوم بفضل استيراد البدائل الجنيسة، صار سعره أقل من 400$. كذلك دواء لسرطان المبيض كان سعره 6000$، وكان يُحجب عن المريض لعدم توفر الميزانية، مما أدّى إلى وفاة عدد من النساء، أما الآن فقد عاد ولو بكميات محدودة».
إلّا أن نصار شدّد على أن «الأدوية ما زالت لا تغطي جميع المرضى، والمنصة الإلكترونية لا تعكس العدد الحقيقي للمصابين لأن المرضى لا يسجلون الأدوية غير المتوفرة أصلاً، ما يؤدي إلى تقدير خاطئ للكميات المطلوبة».
وأضاف أن الضمان الاجتماعي ما زال غائباً عن دوره الأساسي رغم أنه يتقاضى الاشتراكات بالدولار، في حين أن بعض الجهات الضامنة كقوى الأمن بدأت تؤمّن جزءاً من الأدوية.
كما رأى أن الرقابة على المستشفيات ضعيفة جداً، مشيراً إلى أن «بعض المستشفيات تطلب مبالغ طائلة على العلاج رغم أن الأدوية مجانية. مثلاً، هناك مريض دفع 450$ فقط بسبب مبيت ليلي وفحوصات، بينما مستشفى آخر يطلب 200$ فقط لنفس الحالة».
وختم نصار بالقول: «أنا لا أدافع عن الوزارة، لكن أرى أن هناك تحسّناً ملحوظاً، رغم أن الوضع لا يزال بعيداً عن المثالي. المطلوب استرداد الأموال المنهوبة ومحاسبة الفاسدين، وأن تستمر الوزارة في التقدم بهذا النهج».
معاناة المرضى بين الأمل واليأس
قصة مريضة بسرطان الثدي
رَوتْ سيدة لبنانية تبلغ من العمر 35 عاماً، وهي أم لطفلين، تجربتها القاسية مع المرض، فقالت: «أُصبت بسرطان الثدي قبل سنتين وكنت في المرحلة الثالثة. خضعت لعملية استئصال الثدي، ثم بدأت بالعلاج الكيميائي حيث عانيت كثيراً... خسرت شعري وظوافري، وكان لذلك أثر كبير عليّ كأنثى. وبعدها تابعت بالعلاج الإشعاعي الذي سبّب لي حروقاً وتعباً جسدياً ونفسياً».
وأضافت أن الدعم النفسي كان أساسياً في رحلتها: «المريض بحاجة لدعم نفسي كبير، مش بس من العائلة، بل من العمل والمجتمع. وجود دعم في محيطك يغيّر كثيراً في الحالة النفسية».
وأوضحت أنها وجدت بارقة أمل في مركز بربارة نصار: «الحمد للّه استطعت أن أتابع علاجي بالمستشفى، وهناك تعرّفت على المركز. الله يوفّق الأستاذ هاني نصار، لأنه يقدم دعماً كاملاً لمرضى السرطان، ليس فقط بالأدوية، بل نفسياً أيضاً. المركز صار بالنسبة إلنا مجتمع صغير (Community)، كل مريض بيشارك تجربته وندعم بعضنا».
وختمت بالقول: «للأسف بلبنان في مراكز بتعالج الأطفال، لكن للبالغين ما في إلّا مركز بربارة نصار. الطريق ما كانت سهلة، لكن كتر خير الله على كل شي، وبعدني بحاجة للدعم النفسي المستمر».
سامر... يبيع كليته ليعيش
أما سامر، شاب من صيدا في العقد الثالث من عمره، فقد أوضح أن إصابته بسرطان الرئة قلبت حياته رأساً على عقب. وقال: «أنا ابن أم لبنانية وأب غير لبناني، والدولة ما بتعترف فيي كمواطن كامل الحقوق. وزارة الصحة ما بتغطي علاجي، والضمان الاجتماعي ما بيعترف فيي. كأني مش محسوب من ناس هيدا البلد».
وأضاف بأسى: «اليوم أنا عاطل عن العمل، ما عندي مصدر دخل ولا تأمين ولا قدرة على تحمّل تكاليف العلاج الباهظة. ومع مرور الوقت ما بقي قدامي إلّا خيار مأساوي: عرضت كليتي للبيع حتى أقدر أجيب ثمن الأدوية وأكمل علاجي».
وأشار إلى أنه اضطر أيضاً لبيع أثاث منزله قطعة قطعة، قائلاً: «بعتُ ذكرياتي وحياتي وخصوصياتي... كل شي، بس كرمال آخد فرصة بالعلاج وأمدّد حياتي شوي».
وختم سامر صرخته: «أنا ما بطلب الكثير... بس بدي ينحسب إلي حقي كإنسان، بدي أتلقّى العلاج متل أي مواطن، وبدي عيش ما تبقّى من أيام حياتي بكرامة».
ختاماً، يتفق المرضى والخبراء على أن مرض السرطان في لبنان لم يعد تحدّياً طبياً فحسب، بل قضية حياة أو موت تتعلق بالعدالة والكرامة الإنسانية. وفي وقت يبقى فيه المريض ضحية الفساد وغياب الرؤية الصحية الشاملة، يظل الأمل معقوداً على مبادرات جادّة تؤمّن الدواء والاستشفاء للجميع بلا تمييز.
تحقيق: رامي ضاهر