اخبار لبنان
موقع كل يوم -المرده
نشر بتاريخ: ٢٠ تشرين الثاني ٢٠٢٥
تتعاطى إسرائيل مع لبنان اليوم، من زاوية جديدة تقوم على فهمٍ أوسع للدور الذي تريد القوى الإقليمية فرضه على الدول الهشّة من حولها. وفي هذا السياق، تنظر تل أبيب إلى الجيش والدولة اللبنانية، بوصفهما ساحة يمكن إعادة توجيهها سياسياً وأمنياً بما يخدم مشروعها في محاصرة المقاومة وتغيير البيئة التي تتحرّك فيها. الفكرة الأساسية ليست المواجهة المباشرة هذه المرة، بل محاولة تطويع مؤسسات الدولة نفسها ودفعها إلى القيام بأدوار تكمل ما فشلت القوة العسكرية الإسرائيلية في تحقيقه طوال العقود الماضية.
وقد أظهر خطاب بنيامين نتنياهو الأخير في الأمم المتحدة جانباً واضحاً من هذه المقاربة. فبدلاً من الاكتفاء بالإشادة بقرار الحكومة اللبنانية «على هدفهم تفكيك سلاح حزب الله»، سارع إلى التعبير عن عدم رضاه عن مجرد التصريحات، مؤكّداً: «نحن بحاجة إلى أكثر من الكلمات». وفي ذلك إشارة مباشرة إلى أنّ تل أبيب، لا تكتفي بموقف سياسي، بل تنتظر خطوات عملية تُنفَّذ، وفق تصوّرها، عبر الجيش اللبناني نفسه.
وما قاله نتنياهو بلغة دبلوماسية، عبّر عنه تامير هايمن، الرئيس السابق للاستخبارات العسكرية ورئيس معهد أبحاث الأمن القومي، بوضوح أشدّ حين دعا إلى «حضّ الجيش اللبناني على الاحتكاك مع حزب الله». هذا الطرح يختصر جوهر المقاربة الإسرائيلية في هذه المرحلة: الدفع نحو احتكاك داخلي يعيد تشكيل البيئة اللبنانية، ويدفع الجيش إلى موقع صدامي مع المقاومة، بما يفتح الباب أمام مشهد سياسي جديد يهدّد ما تبقّى من استقرار داخلي، ويضع البلاد على حافة الانهيار الأمني والسياسي.
ويبدو جلياً أنّ هذا التوجّه يستند إلى قراءة معمّقة للتجربة الإسرائيلية الطويلة مع المقاومة. فالهزائم المتراكمة منذ انسحاب عام 2000، مروراً بحرب 2006، وصولاً إلى نتائج حرب 2024 (حيث نجحت إسرائيل في توجيه ضربات قاسية وغير مسبوقة من دون أن تتمكّن من القضاء على المقاومة أو تعطيل قدراتها)، رسّخت في العقل الأمني الإسرائيلي قناعة بأنّ القوة العسكرية وحدها عاجزة عن إخراج المقاومة من المعادلة.
ورغم ما ألحقته إسرائيل من أضرار، فإنها فشلت في كسر قدرة المقاومة على الدفاع ومنع اجتياح جنوب الليطاني، ولا في دفعها خارج التوازنات الداخلية اللبنانية. ومن هنا تولّدت لدى صناع القرار في تل أبيب، فكرة أنّ الطريق الأقل كلفة لتحقيق الأهداف الإسرائيلية، يكمن في تغيير اتجاه القرار السيادي اللبناني نفسه: إعادة تحديد دور الجيش وموقع الدولة في مقاربة ملف المقاومة، أو على الأقل الرهان على إمكانية تحقيق ذلك عبر ضغوط سياسية وأمنية.
وفي صلب هذا المسار يتقدّم الدور الأميركي الذي يشكّل الركيزة الأعمق في الاستراتيجية الإسرائيلية الطويلة الأمد. وقد عبّر هايمن صراحة عن طبيعة هذه العلاقة، مؤكّداً أنّ الهجمات الجارية ليست سوى وسيلة مؤقّتة في غياب «سياسة أميركية – إسرائيلية طويلة المدى». وشدّد على ضرورة المزج بين الضغط السياسي والعمل العسكري لفرض «واقع أمني مستقرّ». وهو بذلك يوضح أنّ واشنطن، تبقى الرافعة التي يُفترض أن تمارس الضغوط المالية والسياسية على الدولة اللبنانية ومؤسساتها، وفي مقدّمها الجيش.
وعلى هذه الأرضية يمكن فهم المسارات التي يجري الدفع بها اليوم. فثمّة محاولة واضحة لجرّ لبنان نحو مفاوضات مباشرة مع إسرائيل، وهو ما عبّر عنه نتنياهو، عندما قال إنّ «السلام سيأتي سريعاً» إذا اتّخذ لبنان خطوات «لتحييد حزب الله». وفي الوقت نفسه يجري الضغط على الجيش اللبناني لاتخاذ إجراءات جنوباً، من نوع مداهمات أو تحرّكات أمنية يمكن أن تُستغلّ لإثارة احتكاك مع البيئة الشعبية للمقاومة. وكل من يعرف طبيعة الجنوب اللبناني، يدرك أنّ مثل هذه الإجراءات لا يمكن أن تُقرأ إلا كخطوات تمهّد لمسار أكثر خطورة.
غير أنّ ما يشكّل تهديداً فعلياً للرهانات الإسرائيلية هو احتمال أن يحافظ لبنان على وحدته السياسية، وعلى عناصر القوة التي يمتلكها، وعلى قراره السيادي المستقلّ. فإسرائيل، تدرك أنّ أي تماسك لبناني – سياسي أو عسكري أو شعبي – يعيق محاولاتها لإعادة رسم وظيفة الجيش ولتحويل الدولة إلى منصة ضغط على المقاومة. وهذا السيناريو هو الأكثر خطورة على مخطّطاتها، لأنه يبقي المعادلة الدفاعية للبنان قائمة، ويمنع تحويل الجيش إلى طرف في صراع داخلي أو أداة لفرض تسويات تريدها تل أبيب.
ما يمكن استخلاصه من المسار الإسرائيلي اليوم، أنّ الهدف الحقيقي ليس الضغط على المقاومة فقط، بل جرّ الجيش اللبناني إلى خطوات تُظهره في موقع التصادم معها، بما يؤدّي إلى اهتزاز الداخل وإعادة تعريف وظيفة الدولة. أمّا ما تخشاه إسرائيل فعلاً، فهو أن يفشل هذا المخطّط، وأن يتكرّس في لبنان وعي سياسي وطني يحافظ على السيادة وعلى عناصر القوة التي حمت البلاد في وجه الاعتداءات، وأبقت مشاريع الهيمنة خارج حدودها.











































































