اخبار لبنان
موقع كل يوم -ام تي في
نشر بتاريخ: ٢٥ أب ٢٠٢٥
هل يكفي أن نُعلّم أولادنا التخبّط يوميًّا للنّجاح على أوراق الإمتحانات فقط؟ أليس التّعليم رسالة أبعد من ذلك؟ غالباً ما نُحمّل التّلميذ في لبنان همّ النجاح في الشّهادات والمعدّلات، لكن مَن يُعلّم أطفالنا كيفيّة النّجاح في الحياة وتقنيات التّعامل والتّواصل مع الآخرين؟
ربّما ما نفقده في مدارسنا اليوم ليس التّكنولوجيا ولا المناهج الحديثة، بل درس بسيط إسمه التّعاطف والإنسانيّة والنّجاح الفعليّ، أي كيفيّة العمل على بناء إنسان بكلّ ما للكلمة من معنى. هذه السّطور ليست من نسج الخيال، إنّما مُستوحى من واقعٍ تُطبّقه الدنمارك رسميًّا في مدارسها؛ فمنذ أكثر من 30 عاماً يتعلّم الأطفال هناك كيف يشعرون مع الآخرين ويتعاونون في ما بينهم لحلّ المشاكل والتوصّل إلى حلول، وكيف يكون اللطف مهارة تُدرَّس وتُنمّى، لا نصيحة تُقال.هنا في بلدنا، حيث لا أمان ولا مستقبل مضموناً، وحيث الأزمات مُتتالية لا ترحم أحداً في ظلّ تلاشي الإنسانيّة في العالم كلّه، ألم يحن الوقت لنُفكّر جديًّا ببناء أجيالٍ ناجحة في الحياة وليس على الورق فقط؟في هذا الإطار، تُشدّد الأستاذة بولين التي تعمل كمعلّمة في مدرسةٍ خاصة في بيروت منذ 7 أعوام، على وجوب النّظر في هذا الإجراء فعلاً لأنّ من شأنه أن يأخذ التّعليم إلى مكان أفضل. والمعلّمة التي تُعطي حصصاً بالفلسفة العامة، تقترح في حديثٍ لموقع mtv، أن نُدخِل إلى المناهج حصصاً عن علم النّفس الاجتماعي وكيفيّة فهم الآخر وتعزيز التواصل بين الناس، بالإضافة إلى فهم العقل البشري وكيف يعمل الدّماغ وليس فقط الغوص في التّعليم عن الجسم وأعضائه في علوم الحياة مثلاً.وتُضيف بولين: ماذا لو بدأت الحصّة الأولى في مدارسنا بسؤال كيف تشعر اليوم؟ أو اكتب لي كيف تفكّر أو تتصرّف إذا صادفك موقف معيّن؟، أو أسئلة مُماثلة... كما تلفت إلى أنّ الرياضيات والفيزياء وعلوم الحياة والفلسفة وحتّى اللغة، كلّها مواد مهمّة ولكن الالتفات إلى الإنسان وما في داخله أيضاً مهمّ وقد يشكّل أولوية، نظراً لأنّ المدرسة تُعدّ جيلاً للمستقبل ولا يقتصر عملها فقط على النّتائج والدّرجات.كذلك، تُفرّق بولين بين السِّمة عند الإنسان (Trait) والمهارة (Skill)، موضحةً أنّ السِّمة هي جزء من شخصيّة الفرد تظهر بشكلٍ ثابت أو شبه دائم وتُعتبر أقرب إلى الصّفات الموروثة أو المُتجذّرة. مثلاً أن يكون الشخص هادئاً، سريع الغضب، خجولاً، كريماً... أمّا المهارة فهي قدرة مُكتسبة يُمكن تعلّمها وتطويرها والتّدريب عليها، بغضّ النظر عن وجودها بشكلٍ طبيعيّ في شخصيّة الإنسان. ومن الأمثلة على ذلك: مهارة التفاوض، الكتابة، الاستماع الفعّال، أو حتّى مهارة التعاطف أي القدرة على وضع الذات مكان الآخر وفهم مشاعره، حتى لو لم تكن شخصاً عاطفيًّا بطبعك.لماذا هذه المُقارنة مهمّة؟ وفق بولين: إذا اعتبرنا التعاطف أو اللطف سِمة فقط، سنقول: إما أن تملكها أو لا. لكن حين نراها كمهارة، نفتح الباب أمام الجميع لتعلّمها سواء في المنزل أو المدرسة أو حتى في سنّ متأخّرة.وهنا تكمنُ الفكرة الثّمينة في تعليم التّعاطف بالمدارس، كما تفعل الدنمارك.
في لبنان، حيث يكبرُ الأطفال وسط ضجيج السّياسة وسرعة الأحداث والمشاكل اليوميّة، قد تبدو حصّةٌ دراسيّة عن التّعاطف وفهم الذّات فكرةً ثانويّة أو حتّى ترفاً غير قابل للتّطبيق. لكن ماذا لو كانت هذه الحصّة بكلّ بساطتها هي ما ينقصنا فعلاً لنُغيّر جذراً تربويًّا مُتعباً ونؤسّس لجيلٍ يرى العالم بعيون الآخر، لا بعينيه فقط؟فتخيَّلوا لو خُصِّص وقتٌ أسبوعيّ في كلّ صفّ مدرسيّ لتعليم الأولاد الإصغاء بدل الردّ والكلام والتّسابق على الإجابات الصّحيحة، الشّعور، لا الحكم. التقبّل، لا التنمّر. هذه ليست مجرّد شعارات بل مهارات حياتيّة ضائعة وسط مناهج مُتراكمة لا تُعلّم الحبّ ولا تُمرّن على اللين بل على قتال الآخر للفوز.
هذا الإقتراح هو نتيجة مُلاحظة دقيقة لبعض ما ينقله المعلّمون والأساتذة وما يرونه يوميًّا بفضل احتكاكهم مع التّلاميذ. فيكفي أن تقضي وقتاً مع الأولاد لتفهم كم يحتاج الجيل الجديد لأن يُربّى على قيمة أنا أفهم كيف تشعر، وأفهم ذاتي ولماذا أتصرّف بهذه الطّريقة، وليس فقط أنا أعرف ما أقول، وأنا دائماً على حقّ. نحتاج فعلاً لتربية على أساس أنّ التّعاطف ليس ضعفاً بل قوّة ناعمة قادرة على الحدّ من العنف وإنقاذ الإنسانيّة، وهنا تكمن أهميّة إدخال التّعاطف في المناهج الدراسيّة، لتعليم الأطفال المهارات والتقنيّات الصّحيحة في هذا المجال.
على المدى الطويل، هذه الحصّة الأسبوعيّة قد تكون أكثر نفعاً من عشرات الدّروس النّظريّة. ستُخرّج أجيالًا تُشبه الوطن الذي نحلم به.