اخبار لبنان
موقع كل يوم -المرده
نشر بتاريخ: ١٦ تموز ٢٠٢٥
كتب محمد شمس الدين في 'لبنان الكبير'
تُعدّ جلسات مساءلة الحكومة من أهم أدوات العمل البرلماني في الأنظمة الديموقراطية، إذ تتيح للنواب محاسبة السلطة التنفيذية، وتسليط الضوء على ثغرات الأداء الحكومي، وتوجيه النقاش العام نحو القضايا الوطنية الكبرى. لكن هذه الجلسات تختلف جذرياً من دولة إلى أخرى، من حيث الشكل والمضمون والأثر. وبينما تُمارَس في بعض الأنظمة كسلطة رقابية صارمة قد تُفضي إلى استقالة الحكومة، تظل في أنظمة أخرى، مثل لبنان، أقرب إلى تظاهرة سياسية موسمية، تتقاطع فيها المزايدات مع غياب المساءلة الفعلية.
مساءلة الحكومة في الأنظمة الديموقراطية
في الأنظمة البرلمانية (كالمملكة المتحدة، كندا، ألمانيا)، تخضع الحكومة لرقابة متواصلة من البرلمان، وهي ملزمة بالرد على الاستجوابات والأسئلة البرلمانية، مع احتمال طرح الثقة في حال فقدان الغطاء السياسي. جلسات “أسئلة رئيس الوزراء” الأسبوعية في بريطانيا نموذج يُضرب به المثل في الشفافية والمساءلة، حيث يجيب رئيس الوزراء مباشرة أمام النواب عن السياسات العامة، ضمن آلية إعلامية حيوية.
أما في الأنظمة الرئاسية (كالولايات المتحدة)، فالمساءلة تتخذ شكلاً قانونياً أكثر، حيث تلعب لجان الكونغرس دوراً رقابياً صارماً، وتملك صلاحيات استدعاء الشهود والمسؤولين تحت القسم، مع إمكان الوصول إلى العزل السياسي للرئيس عبر إجراءات “العزل (Impeachment) “، كما حدث مع الرئيسين بيل كلينتون ودونالد ترامب.
وفي الأنظمة المختلطة (مثل فرنسا)، يتقاطع النفوذ بين الرئاسة والحكومة، ما يقيّد أدوات المساءلة. ومع ذلك، يظل للبرلمان قدرة فعلية على مساءلة الحكومة وطرح الثقة بها إذا توافرت الارادة السياسية والأغلبية.
النموذج اللبناني.. جلسة أم واجهة؟
في السياق اللبناني، يخضع مجلس النواب لآلية تنظيمية تنص على تخصيص جلسات لمساءلة الحكومة عملاً بالمادتين 136 و137 من النظام الداخلي، حيث يفترض أن تُعقد جلسة عامة بعد كل ثلاث جلسات تشريعية. ولكن فعلياً، تتحول هذه الجلسات إلى منبر للنقاش السياسي الحاد، بعيداً عن أي تأثير رقابي ملزم أو نتائج تشريعية واضحة.
جلسة المساءلة الأخيرة في البرلمان اللبناني شكّلت نموذجاً دقيقاً لهذه الحالة. فقد طغى فيها ملف سلاح “حزب الله”، وتطبيق القرار 1701، والرد اللبناني على الورقة الأميركية، على مجمل النقاش، وسط غياب أي مسار مؤسساتي واضح يمكن أن يحاسب الحكومة أو يُسقطها أو يُرغمها على تعديل سياساتها.
النواب أدلوا بمداخلاتهم كمن يتحدث أمام جمهور إعلامي، لا أمام سلطة تنفيذية فعلية مسؤولة. من النائب جورج عدوان الذي طالب بخطة زمنية لنزع السلاح، إلى ميشال معوّض الذي تحدّث عن “الفرصة التاريخية الضائعة”، إلى جبران باسيل الذي أقرّ بوجوب تسليم السلاح لكن من دون “حفلة تحريض”، كلهم عبّروا عن مواقف سياسية متباينة من دون أن تترتب على كلامهم أي مسؤولية دستورية على الحكومة.
المساءلة في لبنان.. من أدوات رقابة إلى شعارات سياسية
غياب الأدوات الرقابية الفعلية في النظام اللبناني له جذوره البنيوية:
الائتلاف الحكومي الشامل: معظم القوى النيابية ممثّل في الحكومة نفسها، ما يفرغ جلسات المساءلة من معناها، لأن “الرقابة على النفس” لا تؤدي إلى نتائج.
التحاصص الطائفي: تُقرأ الملفات من زاوية طائفية لا وطنية، فتتحول كل مساءلة إلى سجال مذهبي، وتضيع الأسئلة الجوهرية في دوامة التوازنات.
ضعف الاعلام الاستقصائي البرلماني: بخلاف الدول الغربية حيث تُواكب الصحافة جلسات المساءلة بتحقيقات وتحليلات معمّقة، يندر في لبنان أن تُترجم المداخلات البرلمانية إلى مساءلة إعلامية أو ضغط شعبي.
غياب المحاسبة القانونية: لا يترتب على جلسات المساءلة أي أثر قضائي أو مؤسسي، إذ لا وجود للجان تقصي حقائق فاعلة، ولا تُرفق النقاشات بتقارير تقييم أو متابعات دورية.
نماذج من الأسئلة البرلمانية المفترضة.. بين الممكن والمسكوت عنه
في جلسة المساءلة الأخيرة، سُئلت الحكومة عن ملفات حيوية، أبرزها:
مصير الورقة الأميركية بشأن سلاح “حزب الله”.
خطة الحكومة لإعادة النازحين السوريين.
رؤية الحكومة لتطبيق القرار 1701.
ملف التعيينات الادارية والمحاصصة الحزبية.
واقع الخدمات الصحية والاقتصادية في ظل الانهيار.
لكن هذه الأسئلة، على الرغم من مشروعيتها، لم يُبنَ عليها مسار رقابي فعلي. لم يُطلب من الوزراء تقديم جداول زمنية، ولا أُقرّت لجان تحقيق، ولا طُرحت ثقة أو أُسقِط وزير.
ماذا لو كانت المساءلة فعالة في لبنان؟
لو أُخضعت الحكومة اللبنانية لمساءلة فعلية على الطريقة البريطانية أو الألمانية، لربما سُئلت:
لماذا لم يُعرض الرد اللبناني على الورقة الأميركية على مجلس النواب؟ ومن صاغه؟
ما الخطوات الزمنية التي التزمت بها الحكومة لتطبيق اتفاق الطائف؟
من يعرقل خطة نزع السلاح؟ وهل الدولة طرف محايد أم جزء من الصراع؟
ما نتائج التحقيقات في التعيينات الأخيرة؟ وهل خضعت لمعايير الكفاءة؟
كم أنفقت الحكومة على ملف النازحين خلال الأشهر الستة الماضية؟ وما مصير تلك الأموال؟
في النهاية، يمكن القول إن جلسات مساءلة الحكومة في لبنان، على الرغم من مظهرها الديموقراطي، لا ترقى إلى مستوى الأدوات الرقابية في الأنظمة الدستورية الراسخة. إنها جلسات تعبير لا مساءلة، سجالات لا محاسبة، بيانات لا استجوابات.
لكي تتحول هذه الجلسات إلى أدوات فعلية لتقويم السلطة، لا بد من:
تفعيل اللجان النيابية التحقيقية.
حصر التمثيل الحكومي وتكوين معارضة برلمانية حقيقية
تحديد صلاحيات المجلس بوضوح لطلب الوثائق والاستدعاء.
إشراك الإعلام والهيئات الرقابية في متابعة نتائج الجلسات.
جعل نتائج الجلسات ملزمة إجرائياً للحكومة عبر آلية تصويت واضحة.
من دون ذلك، ستبقى مساءلة الحكومة في لبنان مشهداً من مسرحية طويلة، لا يتغيّر فيها سوى الممثلين، فيما يبقى النص هو نفسه: خطابات بلا نتيجة، ودولة بلا قرار.