اخبار الاردن
موقع كل يوم -وكالة رم للأنباء
نشر بتاريخ: ٢٦ تشرين الأول ٢٠٢٥
رم -
مهدي مبارك عبد الله
قبل أيام فقط صادق الكنيست الإسرائيلي على مشروع قانون يتيح للحكومة استكمال ضم مساحات واسعة من أراضي الضفة تحت غطاء 'التنظيم الإداري' وهو ما مثّل في جوهره خطوة عملية لتنفيذ الضم دون إعلان رسمي الأمر الذي دفع الرئيس الأميركي دونالد ترامب إلى الطلب من نتنياهو وقف القرار مؤقتًا بحجة الحفاظ على الاستقرار الإقليمي وتهدئة التوتر مع العواصم العربية وقد التزم نتنياهو بذلك الطلب شكليًا عبر تجميد الإعلان لكنه في المقابل واصل تنفيذ الخطة على الأرض بوتيرة أسرع من ذي قبل وكأن التجميد ليس سوى غطاء دبلوماسي لتفادي الإحراج السياسي أمام الإدارة الأميركية
رغم تأكيدات الرئيس الأميركي دونالد ترامب المتكررة بعدم السماح لإسرائيل بضم الضفة الغربية وآخرها خلال لقائه مع عدد من القادة العرب والمسلمين في الثالث والعشرين من سبتمبر 2025 فإن المشهد على الأرض يسير في اتجاه معاكس تمامًا فالممارسات الاستيطانية ومشاريع الضم الواقعي تتسارع وتتمدد في عمق الضفة بلا توقف ولا مقاومة فعلية بينما ينشغل العالم بتصريحات علنية مثيرة تغطي على حقائق أكثر خطورة تجري بصمت ودهاء
المفارقة أن ترامب الذي يكرر التزامه برفض الضم هو ذاته من منح إسرائيل أكثر قراراتها تطرفًا وشرعية أميركية حين نقل السفارة إلى القدس واعتبرها عاصمة لإسرائيل رغم أنها جزء من الأراضي الفلسطينية المحتلة التي تشمل الضفة الغربية وهذا التناقض بين الأقوال والأفعال هو جوهر الإشكال فالموقف الأميركي يبدو أنه لم يتغير جذريًا بل تبدلت لغته فقط ليتماشى مع مصالح ظرفية مستجدة تتعلق أساسًا بحماية اتفاقيات التطبيع التي رعتها واشنطن وعلى رأسها اتفاقات إبراهيم التي ظلت عامين تترنح تحت ضغط الحرب المفتوحة في غزة وتدهور صورة الأنظمة العربية المطبّعة أمام شعوبها
الرفض الأميركي المعلن لا يعني بالضرورة وقف مشاريع الضم بل تحويلها إلى خطوات زاحفة وغير معلنة يتم تنفيذها على مراحل وبأدوات إدارية وقانونية وتحت غطاء تشريعي من الكنيست وميداني من وزارات إسرائيلية باتت تمارس السلطة في الضفة وكأنها داخل حدود ما يُسمى بدولة إسرائيل وهذا ما يجري فعليًا عبر خطط مثل 'مشروع E1' الذي يُعد حجر الزاوية في فصل شمال الضفة عن جنوبها وعزل القدس نهائيًا عن محيطها الفلسطيني
المثير في الواقع العملي أن خطة 'E1' ليست جديدة بل مؤجلة منذ عقدين لكنها وجدت في اللحظة السياسية الحالية فرصة ذهبية للتنفيذ تحت مظلة حكومة يمينية دينية متطرفة يقودها بنيامين نتنياهو وتشارك فيها شخصيات مثل بتسلئيل سموتريتش الذي بات يملك صلاحيات واسعة تُمكّنه من فرض مخططات استيطانية دون الرجوع إلى وزارة الجيش وهو تحوّل جوهري في بنية السلطة داخل إسرائيل يجعل الاستيطان مشروعًا استراتيجيًا لا يتطلب إجماع الحكومة بل يكفي توقيع وزير واحد فقط ليتحول المخطط إلى أمر واقعي ملموس
وفي هذا السياق تم التصديق على بناء آلاف الوحدات الاستيطانية في قلب الضفة تحت شعار 'تطوير القدس الكبرى' وهو في الحقيقة مخطط خبيث لإنهاء أي تواصل جغرافي فلسطيني وتفكيك البنية المكانية التي يمكن أن تقوم عليها دولة فلسطينية مستقبلًا فخطة 'E1' على سبيل المثال تقطع الطريق بين مدينتي رام الله وبيت لحم وتغلق الممر الحيوي الذي يربط شمال الضفة بجنوبها وتحول القدس الشرقية إلى جزيرة محاصرة بالمستوطنات من كل جانب
إذا كان الرئيس ترامب قد أعلن رفضه القاطع لأي ضم رسمي فإن كل ما يجري من تشريعات في الكنيست وتوسعات في المستوطنات وتسجيل أراضٍ باسم مستوطنين في مناطق 'C' يكشف عن نوع آخر من الضم هو الضم الفعلي الذي لا يحتاج إلى إعلان رسمي بل إلى صمت أميركي وتجاهل دولي وهذا ما توفره إدارة ترامب عبر الانشغال بالتفاوض مع العرب حول ما تسميه 'الخطوة التالية' للمنطقة في ظل التدمير الكامل لغزة والتلويح بخطط إعادة الإعمار كأداة لجر العرب إلى طاولة تفاوض جديدة لا تشمل فلسطين فقط بل تتجاوزها تمامًا
إن رفض ترامب لضم الضفة لا يبدو أكثر من كونه خطوة محسوبة لتخفيف الضغط على اتفاقيات إبراهيم وإبقاء شعرة معاوية بين واشنطن والعواصم العربية التي وجدت نفسها في حرج شديد أمام شعوبها بعد حرب غزة المتواصلة وقد بدا واضحًا أن ما يمنع إعلان الضم هو الخوف من نسف مسار التطبيع الذي يُعد أبرز إنجاز سياسي لترامب في المنطقة لا سيما بعد الإشارات القوية إلى إمكانية انضمام السعودية لهذا المسار قبل أن تعرقله مذبحة غزة والمواقف الشعبية المتفجرة في العالمين العربي والإسلامي
المعلومات المسرّبة من مصادر أميركية وإسرائيلية تكشف أن ترامب مارس ضغوطًا على نتنياهو لتجميد الإعلان الرسمي لا وقف خطوات الضم الفعلي بل مجرد تأجيلها إعلاميًا من أجل تقديم صورة أكثر توازنًا لإدارته مع اقتراب الانتخابات الرئاسية الأميركية حيث يسعى لتقديم نفسه كضامن لـ'السلام' في المنطقة بينما تقضم إسرائيل يوميًا أراضي الضفة وتحوّلها إلى كانتونات معزولة ضمن مشروع استيطاني أوسع لا يخفي نواياه في إنهاء فكرة الدولة الفلسطينية من الأساس
واللافت أن هناك مصادر إسرائيلية أكدت أن نتنياهو أمر وزراءه بعدم التحدث علنًا عن مسألة فرض السيادة الإسرائيلية على الضفة تجنبًا لإحراج ترامب مع حلفائه العرب ما يعني أن وقف قرار الضم الآن ليس سوى تكتيك إعلامي لتأمين الغطاء الأميركي والعربي للمخططات الجارية على الأرض وليس تراجعًا حقيقيًا عن المشروع الاستيطاني الكبير بل مسايرة مؤقتة للظروف الإقليمية الصعبة
هذا التواطؤ غير المعلن بين إدارة ترامب وحكومة الاحتلال يفسر استمرار مشاريع مصادرة الأراضي وربط المستوطنات وإزالة أي وجود فلسطيني في مناطق محددة بحجة عدم الترخيص أو مخالفة أسس التخطيط المدني بينما تتوسع المستوطنات والبؤر العشوائية بحماية الجيش وتمنح صفة 'الشرعية' لها عبر قوانين الكنيست المختلفة
بعض المنظمات الحقوقية الإسرائيلية والفلسطينية كشفت أن ما يُنفذ اليوم هو المرحلة الأخيرة من خطة إسرائيلية قديمة تتبنى منطق السيطرة الكاملة على 60 بالمئة من الضفة وتحيل ما تبقى إلى مناطق مكتظة بالسكان دون سيادة أو حدود متصلة ما يخرج فكرة 'الدولة الفلسطينية' من التداول الواقعي حتى لو بقيت في الخطابات الدولية المتواصلة
كما أن التحولات السياسية في إسرائيل بعد السابع من أكتوبر 2023 وما تلاها من حرب شاملة على غزة وفرض اتفاق النار برعاية أميركية وإسرائيلية أفرزت واقعًا أمنيًا مختلفًا يُتوقع أن يُستخدم مبررًا لتسريع الضم من خلال قوانين جديدة توسع صلاحيات وزارات مثل المالية والأمن لتشمل الإدارة المدنية في الضفة وتُسهّل تمرير مشاريع كبرى تحت مظلة 'الأمن القومي' أو 'تطوير البنية التحتية'
ختامًا إذا كان ترامب قد بدا في ظاهر خطابه حريصًا على منع الضم حفاظًا على السلام فإن جوهر الموقف الأميركي يكشف عكس ذلك تمامًا إذ إن الهدف الحقيقي لم يكن حماية الحقوق الفلسطينية بل ضمان بقاء مسار التطبيع قائمًا دون اضطرابات مما يجعل رفضه المعلن أقرب إلى مناورة انتخابية وتكتيك سياسي مؤقت لا يعكس تحولًا في الموقف الأميركي بقدر ما يعبر عن محاولة لشراء الوقت وتجميل وجه إدارة ترعى واقع الضم الفعلي بصمت ورضا
كاتب وباحث مختص في الشؤون السياسية
[email protected]












































