تشهد الأيام الحالية والسنوات الماضية الكثير من التجاذب والتأويل حول 'المسألة الشيعية' في لبنان بعد أن تصدر المشهد السياسي اللبناني ثنائي 'حزب الله' و'حركة أمل'، وأضحى في الساحة اللبنانية مرشد عام يضبط نمط الحركة في الحياة السياسية وفق عقارب ساعته، فيعطل هنا ويفرض هناك ويهيمن على المشهد السياسي تحت حجة ميثاقية أو أكثرية شعبية أو مصالح استراتيجية، فتحمّل 'الشيعة'، بما تحمل الكلمة من مدلول عن مجموعة لبنانية ضمن نسيج المجموعات اللبنانية، تبعات أفكار وإيديولوجيات تخطت الساحة اللبنانية إلى الإقليم وموازين القوى المحلية والدولية. من هنا ، كان لا بد من تقديم سردية توثيقية لواقع هذا المذهب الديني أو الطائفة التي حصلت على اعترافها الرسمي مع ولادة دولة لبنان الكبير وإقرار دستوره، فأضحت الطائفة 'الفتية' في الطوائف اللبنانية فنهض بها لبنان وهي نهضت به.

شيعة لبنان: من الظهور إلى الاعتراف

تأتي كلمة 'الشيعة' في اللغة بمعنى الأنصار والأتباع والموالين. أما اصطلاحاً، فهي تستخدم لمن شايعوا علياً (الخليفة الإسلامي الرابع) وتبعوه. وقد تفرق'الشيعة' إلى فرق عديدة ظهر معظمها قبل القرن التاسع الميلادي، أي في حياة أئمة الشيعة الإثني عشر. ومن بين هذه الفرق، ثلاث لها وجود في لبنان، وهي:

طائفة 'الإسماعيلية' الذين قالوا إن الإمامة لابن جعفر الصادق إسماعيل وليس لابنه موسى الكاظم.

وخرجت من 'الإسماعيلية' طائفة الموحدين الدروز والذين استقر معظمهم بعد وفاة الخليفة الفاطمي الحاكم بأمر الله في وادي التيم وجبل الدروز.

وانبثقت 'العلوية' أو 'النصيرية' من رحم الإثني عشرية وسميت كذلك نسبة إلى أبي شعيب محمد بن نصير النميري الذي ادعى سفارته للإمام المهدي.

واخيراً الإثنا عشرية، وهي أشهر هذه الفرق وأكثرها عدداً وأوسعها انتشاراً. ومن بين أبنائها من قالوا بإمامة اثني عشر معصوماً بعد رحيل النبي، على أن تكون هذه الإمامة في علي بن أبي طالب ابن عم النبي وصهره وولديه الحسن والحسين ومن بعد في أبناء الحسين دون الحسن إلى آخر العالم، وإمامتهم مستمرة اليوم عبر الإمام الثاني عشر 'المهدي' الغائب في غيبته الكبرى منذ عام 941 ميلادياً بعد وفاه سفيره الرابع ونائبه الخاص علي بن محمد السمري وعدم تعيين خلف له، وهم اليوم في 'زمن غيبة الإمام المهدي الكبرى، وينتظرون ظهوره ليملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت ظلماً وجوراً'. وورد في 'بحار الأنوار' للعلامة المجلسي نقلاً عن الإمام الباقر أن 'كل راية ترفع قبل قيام القائم عليه السلام فصاحبها طاغوت يعبد من دون الله عز وجل'.

تعددت الروايات حول وصول التشيّع إلى لبنان. وتم عرض هذه الروايات في كتاب 'تاريخ شيعة لبنان من الماضي الغامض إلى المستقبل المجهول' الصادر عن 'أمم للتوثيق والأبحاث' في بيروت عام 2023. فبحسب المؤرخ محمد علي مكي، فإن التشيّع ظهر في العهد الأموي في جنوب لبنان بعد نفي الخليفة الأموي معاوية بن أبي سفيان أبي ذر الغفاري، أحد صحابة النبي والذي تشيّع للإمام علي، إلى جبل عامل وتنقّله بين ميس الجبل والصرفند حيث يوجد مرقدان له فيهما. ويشير المؤرخ جعفر المهاجر أن أول من حمل التشيّع إلى لبنان هم قبيلة همدان إلى مدينة بعلبك حيث يوجد 'باب همدان'. في المقابل، يورد الباحث محمد حمادة الرواية التي تردّ التشيّع إلى الأصل الفارسي، ويتحدث عن متحدرين من أصول فارسية وطّنهم معاوية بن أبي سفيان وسلالته على طول الساحل اللبناني من طرابلس إلى صور كما في بعلبك.

وما إن أقبل القرن العاشر الميلادي حتى باتت للشيعة تجمعات واضحة في مختلف المناطق الساحلية والداخلية اللبنانية، وأصبحت لهم دولهم كدولة بني عمار في طرابلس التي دامت لنحو 40 عاماً إلى أن سقطت بيد الصليبيين عام 1110 ومن ثم بيد المماليك فتفرق سكانها باتجاه كسروان ومناطق أخرى في الداخل.

لم يدم الاستقرار للشيعة كثيراً، فمع سيطرة المماليك على الحكم في المناطق اللبنانية وطرد الصليبيين، قاموا بتحريم أي مذهب غير المذاهب السنية الفقهية الأربعة. وبلغت أمور الشيعة من السوء، أن من كان يريد أن يكيد لشخص ما، يرميه بالتشيّع. كما شهدت تلك الفترة حملات عسكرية للمماليك على مناطق كسروان حيث الوجود الشيعي، فتشرد الأهالي وهاموا في الأرض يبحثون عن ملاذ آمن في المناطق الداخلية. وتم إعدام الشهيد الأول (محمد بن مكي) الزعيم الديني للشيعة في جزين عام 1384 في عهد السلطان المملوكي الظاهر برقوق. ورغم ظهور الأسر الإقطاعية مثل آل بشارة في عهد المماليك، وآل حمادة في جبل لبنان والأمراء الحرافشة في البقاع وبنو الصغير في جبل عامل في عهد العثمانيين، إلا أن وجودهم كان عرضة للمد والجزر وفق طبيعة الولاة والأزمنة. ولعل أبرز نكباتهم كانت في عام 1781 عندما قُتِلَ قائد العامليين ناصيف النصار على يد والي عكا العثماني أحمد باشا الجزار الذي انتصر عليهم في بلدةِ يارون، فنكَّلَ الجزّارُ بالعامليين لمدّةِ سنتين متواصلتين تاهَ فيها وجهاءُ الأُسرِ العامليَّةِ باتجاه عكّار والبقاع والشّام. وظل الشيعة في العهد العثماني على اختلاف عهوده ينظر إليهم كـ 'زؤان المسلمين'.

بعد أفول السلطنة العثمانية، وفي ظل ما عرف بالثورة العربية، انعقد مؤتمر وادي الحجير في 24 نيسان 1920 بدعوة من كامل خليل الأسعد وحضور الزعامات التقليدية الشيعية وقادة العصابات المسلحة ومجموعة من رجال الدين والنخب الثقافية المعنية بالشأن العام، وقررت الهيئة العامة للمؤتمر استقلال جبل عامل استقلالاً داخلياً ضمن الوحدة السورية تحت راية الملك فيصل. ولكن بعد إعلان دولة لبنان الكبير، شارك العديد من الشخصيات الشيعية في تأسيس الكيان وانخرط في مؤسسات الدولة الجديدة كملّاك الأراضي يوسف الزين ونجيب عسيران وعلي نصرت الأسعد وصبحي حيدر وصبري حمادة وأحمد الحسيني وغيرهم. كما تحسنت علاقة السيد عبد الحسين شرف الدين المرجع الشيعي الكبير بالكيان الجديد بعد نفي وجفاء، وأصبح يطلق عليه لقب 'سيد المتاولة الكبير'، وأعلن موالاته لسلطة الكيان الجديد والعيش بوئام مع المسيحيين.

أظهر الإحصاء السكاني الذي أنجز في 17 كانون الثاني 1922 أن عدد الشيعة بلغ 104947 شخصاً ما نسبته 17،23 بالمئة من إجمالي السكان متبوئين المركز الثالث بعد الموارنة والسنة. وساهم هذا الإحصاء، مع تأكيد الشيوخ الشيعة في جبل عامل الالتزام بالكيان اللبناني، في حصول الشيعة عند إصدار النظام الأساسي للبنان على الاعتراف الرسمي بالمذهب الجعفري الشيعي وبوضعيتهم كطائفة مؤسسة للبنان الكبير. فأصدر المفوض السامي دو جوفنيل في 17 كانون الثاني 1926 القرار رقم 3503 الذي يعترف فيه بالشيعة كطائفة دينية مستقلة، وعيّن قاضي صيدا منير عسيران الذي تعرض للسجن خلال الفترة العثمانية رئيساً لمحكمة التمييز الجعفرية المستحدثة، وانخرط اللبنانيون الشيعة في دولة لبنان الكبير كمواطنين لبنانيين يتمتعون بكامل الحقوق والواجبات بعد قرون من الاضطهاد والتمييز فكانوا 'الطائفة الفتاة' في الدولة الجديدة.