في قراءة شاملة للواقع اللبناني، يؤكد الخبير الاقتصادي والاجتماعي الدكتور بلال علامة أن ما نعيشه اليوم ليس وليد اللحظة، بل نتيجة تراكمات عقود من غياب التخطيط الاستراتيجي والافتقار إلى السياسات المنتجة.

يقول علامة: «السؤال المحوري الذي يجب أن يُطرح هو: هل يرتبط الاقتصاد ببناء الدولة؟ وهل لدينا فعلاً دولة منتجة؟ للأسف، الدولة اللبنانية في وضعها الحالي لا تملك رؤية اقتصادية متكاملة تُحفّز الإنتاج، لا في الزراعة ولا في الصناعة، ما ينعكس سلباً على الخزينة العامة ويجعلها عاجزة عن تأمين مدخولات حقيقية ومستدامة».

ويضيف: «نعيش فوق ركام جمهورية انهارت مؤسساتها الواحدة تلو الأخرى، وسط غياب شبه تام لأي مبادرات إصلاحية جذرية. ما طُبّق سابقاً كان مجرد حلول ظرفية لم تُعالج الأسباب بل اكتفت بترقيع النتائج».

الفساد والهدر: أرقام صادمة وحقائق مغيّبة

يشير الدكتور علامة إلى أن الفساد والهدر المالي في لبنان تخطّيا كل التوقعات:

«حين نتحدث عن فجوة مالية تُقدّر بـ70 مليار دولار، نغفل أن حجم الأموال المهدورة في لبنان خلال العشرين سنة الأخيرة يتجاوز 300 مليار دولار. دخلت هذه الأموال إلى البلد على شكل ضرائب، مساعدات، وتدفقات مالية، لكنها ذهبت في جيوب المنتفعين».

ويكشف علامة عن معطيات خطيرة:

«هناك هيئة تُدعى «هيئة التحقيق الخاصة»، تتمتع بصلاحيات واسعة وتفوق أحياناً السلطة القضائية. بحسب دراسة للواء الدكتور فضل ظاهر، فإن هذه الهيئة، إذا تم تحصينها استقلالياً، يمكنها استرجاع نحو 190 مليار دولار من الأموال المنهوبة، عبر تتبّع مصادرها واستعمال الاتفاقيات الدولية».

ويتابع: «الخلل يبدأ من التعيينات. لا يجوز أن يُعيّن حاكم مصرف لبنان السابق على رأس هيئة التحقيق، وهو المتهم الأول في ملفات الهدر، ما يعطّل كل أمل بالمحاسبة».

ثروة النفط والغاز: فرصة ضائعة؟

يرى الدكتور علامة أن ملف النفط والغاز يُمثّل الفرصة الذهبية الأخيرة لإنقاذ لبنان، لكنه ملف غائب عن النقاش العام، ويُدار بطريقة غير شفافة.

يقول: «تم تقطيع البلوكات النفطية بطريقة تراعي الحصص السياسية لا المصلحة الوطنية. السياسة دخلت باكراً في الملف، فحوّلته من فرصة إنتاجية إلى ورقة تفاوض إقليمية».

ويحذّر من الخطر الإقليمي قائلاً: «إسرائيل أصبحت عنصراً فاعلاً في «المنظمة الشرق أوسطية للنفط والغاز» بعد أن سيطرت على الحصة الفلسطينية. ومع أن تصدير الغاز اللبناني ممكن عبر مصر، إلّا أن غياب استراتيجية واضحة وتضارب المصالح داخلياً يهدّدان هذه الفرصة».

العقد الاجتماعي الممزّق... وثورة إدارية مطلوبة

عن واقع الدولة وعلاقتها بالمواطن، يصف الدكتور علامة ما يجري بـ«انهيار العقد الاجتماعي»:

«لا ضمانات صحية، لا تعليم مجاني، لا معاشات تقاعدية عادلة، ولا مساءلة حقيقية. العقد الاجتماعي بين المواطن والدولة تمزّق، وبات المواطن يدفع من دون أن يأخذ، يُحاسب ولا يحاسب».

ويضيف: «نحتاج إلى ما يشبه الثورة الإدارية. استحضار تجربة ماو تسي تونغ ليس لتقليدها، بل للاستفادة من جوهرها: الانضباط، المحاسبة، والمردودية. الوزارات يجب أن تكون منتجة، والإدارة يجب أن تقوم على الكفاءة لا على المحاصصة».

كما يدعو إلى خطوات عملية:

- فرض المحاسبة كأولوية.

- إعادة هيكلة الوزارات والمؤسسات العامة.

- بناء إدارة حديثة ترتكز على الشفافية والجدارة.

- تفعيل القضاء المستقل والنقابات الحيّة.

ويختم قائلاً: «لبنان ليس بلداً فقيراً. إنه بلد نُهب بدمٍ بارد، ولا خلاص إلّا بإرادة سياسية حقيقية وإدارة تُعيد للمواطن كرامته، وللدولة وظيفتها».

الإنقاذ ممكن... لكنه مشروط

بحسب الدكتور بلال علامة، الإنقاذ ليس مستحيلاً، لكنه يتطلّب قراراً جريئاً وقيادة وطنية حقيقية:

«النهضة ليست حلماً، بل مسؤولية. والإصلاح لا يبدأ من الخارج، بل من الداخل، عندما نعيد المعنى للوظيفة العامة، ونضع حدّاً اللهدر، ونحوّل الموارد إلى مشاريع إنتاجية تخدم الإنسان لا الزعيم».

تحقيق: رامي ضاهر