لم يكن اللبنانيون بحاجة لحصول الاعتداء “الإسرائيلي” المجرم على منطقة المصيلح، واستهدافه منشآت ومعدات وآليات مدنية لها علاقة بقطاع البناء، حتى يتأكدوا أنّ العدو يعمل بكلّ ما في وسعه لكي يمنع إعادة الإعمار في القرى والبلدات والمدن المتضرّرة إلى حدّ كبير جداً جراء الحرب الإرهابية التي شنّها هذا العدو ضدّ لبنان في خريف العام 2024…

هذه الحرب لم تتوقف مع إعلان وقف الأعمال العدائية في 27 تشرين الثاني الماضي، بل استمرّت الاعتداءات اليومية بوتيرة مكثفة في المناطق الحدودية، وبشكل انتقائي مقصود في منطقة شمال الليطاني وكذلك في الضاحية الجنوبية والبقاع… كما تعمّد جيش العدو التوغل داخل الأراضي اللبنانية وإحداث المزيد من التدمير والهدم في قرى وبلدات الحافة الحدودية، وهي التي عجز عن التقدّم فيها خلال الحرب بفعل تصدّي أبطال المقاومة وأساطيرها الذين وقفوا سداً منيعاً في وجه أكثر من سبعين ألف جندي إسرائيلي مدجّجين بأحدث أنواع الأسلحة ومدعومين بسلاح الجو، وفي خدمتهم الجيش الأميركي ومعظم جيوش الغرب بكلّ ما يملكون من أسلحة متطورة وتقنيات فتاكة…

لم يوفر العدو أحداً بل استهدف كلّ شيء، البشر والحجر والزرع وكلّ ما يمكن أن يمتّ إلى الحياة بِصلة… حيث ارتكب الجرائم الموصوفة وآخرها في بلدة زبدين باستهداف جريح البايجر الضرير حسن عطوي وزوجته زينب رسلان التي كانت تقود السيارة، وقد استشهدا على الفور فيما كانا ذاهبَيْن لاصطحاب أبنائهم من المدرسة، وأيضاً في بنت جبيل حيث جرى استهداف عائلة شرارة التي استشهد منها الأب شادي شرارة وثلاثة من أبنائه فيما تتلقى الأمّ أماني بزي وابنتها أـسيل العلاج في مستشفى الجامعة الأميركية في بيروت، وقد زار رئيس الجمهورية العماد جوزاف عون وعقيلته السيدة نعمت الجريحة أماني وعبّرا عن كلّ مشاعر المواساة والتمنّي بشفائها مع ابنتها، وذلك في لفتة قابلها اللبنانيون بالكثير من الترحيب لأنها تعكس نوعاً من التضامن الوطني الذي نحتاجه كثيراً في هذه الأيام.

هاتان الجريمتان المُعبّرتان نستعيدهما كدلالة على المدى الإرهابي الذي بلغه هذا العدو البربري، ولا ننسى كلّ ما ارتكبه بحقّ شعبنا خلال معركة “أولي البأس” وما قبلها وبعدها من اعتداءات طاولت مواطنين لبنانيين وممتلكات وأرزاق لبنانية لا بدّ أن تتابعها الدولة بأجهزتها المختلفة لكي توثقها بشكل مدروس تمهيداً لمطالبة كيان العدو بالتعويضات المناسبة عبر الأطر الدولية المعمول بها في هذا المجال.

ومن الجيد أننا رأينا بعد العدوان على المصيلح نمطاً جديداً من التعاطي الرسمي، حيث قام وزراء الداخلية العميد أحمد الحجار والعمل د. محمد حيدر والأشغال فايز رسامني بزيارة الموقع المُستهدَف ومعهم مدير مكتب رئيس مجلس النواب نبيه بري في المصيلح النائب هاني قبيسي، وعدد آخر من النواب والمسؤولين المحليين.

وللمرة الأولى أيضاً بعد أكثر من 4500 خرق تحرّك رئيس الحكومة نواف سلام وطلب من وزارة الخارجية تقديم شكوى إلى مجلس الأمن الدولي ضدّ العدو “الإسرائيلي”، علماً أنّ وزير الخارجية السابق د. عبدالله بو حبيب كان قد تقدّم بأكثر من شكوى ضدّ العدو في الفترة الممتدة بين تاريخ وقف الأعمال العدائية في 27 تشرين الثاني 2024 وتاريخ تشكيل حكومة نواف سلام في 8 شباط 2025، وهي الحكومة التي لا وجود فيها لوزير خارجية لبناني!

كلّ هذا ممتاز وموضع ترحيب، لكن لا تكفي البيانات بل المطلوب إجراءات عملية تترجم هذه البيانات على أرض الواقع وتلاقي مطالب الناس الذين يريدون دولة تحميهم وتوفر لهم الأمن والاستقرار، وتهتمّ بإعادة الإعمار والبناء… وإذا قال البعض إنّ هذه مطالب مستحيلة في ظلّ دولة مفلسة، نقول على الأقلّ فلتتحمّل الحكومة المسؤولية وتبدأ بخطوات صغيرة مقدور عليها حتى يحسّ الناس أنّ هناك شيئاً ما يتحقق وأنّ الأمور تسير في الاتجاه الصحيح حتى لو تطلّب ذلك بعض الوقت.

وهنا نذكّر مثلاً باللقاء الذي جمَع قبل أشهر رئيس الحكومة نواف سلام ووفد من كتلة الوفاء للمقاومة برئاسة النائب محمد رعد حيث تمّ الاتفاق على البدء بورشة تدعيم الإنشاءات في الأبنية المتضرّرة في الضاحية الجنوبية، وذلك وفق دراسة منجزة وشاملة ودقيقة تظهر أنّ الكلفة لا تتجاوز الـ 40 مليون دولار، وهذا مبلغ يمكن تأمينه من مصادر عديدة، من دون تحميل الخزينة العامة أيّ أعباء، لكن المناخ السياسي الذي يدور فيه رئيس الحكومة تغيّر بعد ذلك الاجتماع وبقيَت الدراسات على الورق تنتظر مَن يعطي الإشارة ببدء تنفيذها.

أوردنا هذا المثال لنؤكد أنّ طريق الألف ميل يبدأ بخطوة، والمهمّ أن يبدأ لا أن تؤخذ الأمور بالمماطلة وبالاستجابة لشروط الخارج، وهذا بالضبط ما قصده الرئيس نبيه بري حين أكد صراحة أن لا موازنة عامة إذا لم يكن فيها بند لإعادة الإعمار…

هذا قبل العدوان على المصيلح… وبعد العدوان قال الرئيس بري “إنّ الرسالة وصلت”، والمعنى أنّ الردّ على العدوان يكون بالإصرار على البناء والإعمار…