اخبار لبنان
موقع كل يوم -أي أم ليبانون
نشر بتاريخ: ٨ تموز ٢٠٢٥
كتب داود رمال في 'الأنباء الكويتية':
تبدلت المعادلات الكبرى في لبنان، واهتزت المفاهيم التي لطالما استهلكت في أدبيات الخطاب السياسي الوطني، وعلى رأسها مفهوم «الإستراتيجية الدفاعية» الذي بقي مطروحا منذ أكثر من عقدين كمادة سجالية على طاولة الحوار الوطني، من دون أن يكتب له أن يتحول إلى إطار عمل فعلي.
اليوم، لم يعد الجدل يدور حول مضمون هذه الاستراتيجية أو سبل تطبيقها، بل أصبح السؤال المطروح هو: هل لايزال هناك مكان لهذه الإستراتيجية أصلا؟ وهل بقي من مقوماتها ما يسمح بإعادة بنائها؟ أم إنها سقطت نهائيا بانتهاك تحييد لبنان، وبالدخول الانفرادي في حروب تتجاوز المصلحة الوطنية وتخالف النصوص الدستورية وروحية الميثاق؟ لقد شكلت وثيقة إعلان بعبدا، التي أقرت بإجماع المشاركين في هيئة الحوار الوطني عام 2012، محطة مفصلية في محاولة بناء مقاربة وطنية موحدة لحماية لبنان من تداعيات الصراعات الإقليمية، عبر تبني مبدأ تحييده عن المحاور والنزاعات، لكن هذا الإعلان لم يترجم يوما إلى سياسة فعلية، وسرعان ما تهاوى تحت ضربات الوقائع الميدانية والخيارات السياسية الأحادية، حين تم إدخال لبنان، من دون قرار شرعي جامع، في حروب إسناد خارجية، كان أثقلها ما جرى في سورية، وصولا إلى الانخراط في الحرب المفتوحة جنوبا باسم «إسناد غزة»، من دون أي تنسيق مع الدولة اللبنانية أو تغطية من مؤسساتها الشرعية.
هذا الانخراط المجاني والعبثي في الحروب لم يمر من دون أثمان فادحة، بحسب مرجع رئاسي سابق قال لـ «الأنباء» إن «لبنان دفع كلفة باهظة من أرواح أبنائه، ومن بنيته التحتية، ومن استقراره الاقتصادي، كما من صورته الدولية التي لطالما حاول أن يصونها عبر سياسة النأي بالنفس.
وقد أصبح جليا أن من يدخل الحرب منفردا سيحاسبه شعبه جماعيا. وها نحن أمام آلاف الضحايا والجرحى والإعاقات، وأمام دمار في الجنوب والبقاع لم يكن للجيش اللبناني أو الدولة المركزية رأي فيه، بل ترك القرار لسلاح حزب الله الخارج عن نطاق الدولة، والذي تحول من عامل مقاومة إلى عنصر إشكالي في معادلة الكيان الوطني».
من جهة أخرى، أوضح المرجع ان «التطورات الميدانية، لاسيما تلك المتصلة بانتشار الجيش اللبناني جنوب الليطاني وتوسيع نطاق عمليات «اليونيفيل» في هذا المحور الحيوي، أدت إلى تغير كبير في مشهد القوة وخرائط السيطرة، ما فرض واقعا جديدا يصعب معه إبقاء الخطاب السياسي في دائرة الطوباويات، فمشهد تفكيك منشآت حزب الله في تلك المناطق نتيجة الضغوط الدولية وتنفيذا لقرار مجلس الأمن 1701 لا يمكن قراءته إلا بوصفه بداية تآكل فعلية لموقع الحزب كصاحب قرار عسكري منفرد على مستوى كل الجغرافيا اللبنانية. وهذه المستجدات تخرج النقاش حول السلاح من دائرة الرمزية والشعارات، وتضعه في خانة الجداول الزمنية، لا بوصفه خيارا سياسيا مطروحا على طاولة الحوار، بل باعتباره مسارا يفرض فرضا من خلال المعادلات الدولية والتحولات الميدانية».
وفي هذا الإطار، يرى المرجع أنه «لم تعد الاستراتيجية الدفاعية كما عرفت في الأعوام السابقة ذات جدوى، لأنها بنيت على أساس الشراكة بين الدولة والمقاومة، في حين أن الواقع الحالي يعيد تحديد من هو صاحب القرار الأمني والعسكري، ويعيد الاعتبار للمؤسسات الشرعية، فاستراتيجية الأمن القومي اليوم لم تعد تولد من طاولة حوار توافقية فضفاضة، بل ترسم داخل المؤسسة العسكرية، ويقرها المجلس الأعلى للدفاع الذي يضم رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة ووزراء الدفاع والداخلية وقادة الأجهزة الأمنية، أي من داخل المنظومة الدستورية القائمة وليس من خارجها. وهذا التطور هو في جوهره عودة إلى المنطق المؤسساتي، وإن تمت هندسته تحت ضغط العوامل الخارجية والداخلية المعقدة».
رغم ذلك، يؤكد المرجع أنه «لا يمكن إنكار أن الحوار الوطني يبقى حاجة حيوية في لبنان، لا باعتباره أداة لاتخاذ قرارات سيادية، بل كرافعة سياسية تسمح بإعادة ترميم الشرعية الميثاقية التي تضمن استمرارية العيش المشترك، وتجسيد المادة «ي» من مقدمة الدستور التي تنص على أنه «لا شرعية لأي سلطة تناقض ميثاق العيش المشترك»، فالحوار في نظام تعددي مثل لبنان ليس ترفا، بل ضرورة لصون الاستقرار الداخلي ومنع انزلاق المؤسسات إلى التعطيل أو الانهيار».
أكثر من ذلك، يشدد المرجع على «ان الحوار الوطني يجب أن يفهم اليوم كمجال لدعم المؤسسات الدستورية، لا لمصادرتها، ولكي يكون مساحة لتقاطع القوى السياسية حول أولويات بناء الدولة، لا ساحة للمناورة وتقطيع الوقت، فالنهوض بالدولة لم يعد ممكنا عبر الاجتماعات الرمزية، بل من خلال الالتزام الجماعي بإعادة الاعتبار للدستور، وتحقيق السياسات العامة التي تحفظ السيادة وتكرس الحصرية الأمنية والعسكرية بيد الدولة».
باختصار، سقط مفهوم الاستراتيجية الدفاعية التقليدية بفعل ممارسات أنهكت لبنان وأخرجته عن منطق الدولة. أما الاستراتيجية الواقعية الجديدة فهي تبنى في كواليس المؤسسات الشرعية، وعلى طاولة المجلس الأعلى للدفاع. والانتقال من مرحلة الشعارات إلى مرحلة التخطيط الوطني الشامل بدأ، وإن ببطء.