كتب داود رمال في 'نداء الوطن': 

تعود الأنظار مجددًا إلى بيروت مع الإعلان عن زيارة الموفد الأميركي توم براك الإثنين المقبل، في زيارة تمتد ليومين، سيتسلّم في خلالها الرد الرسمي اللبناني على الورقة الأميركية التي سبق أن طرحها في زيارته الأولى. هذه الورقة لم تكن مجرد مبادرة عابرة، بل جاءت متكاملة في مضمونها، جامعة بين الخطوط العريضة لما ورد في خطاب القسم لرئيس الجمهورية العماد جوزاف عون، وما تضمنته أولويات الحكومة الحالية، ومُحمّلة بتوقّعات أن تفتح أفقًا سياسيًا واسعًا أمام لبنان للخروج من أزماته المتراكمة. غير أن ما يميّز الجولة المقبلة هو أن لبنان أعدّ رده هذه المرة على نار ثلاثية هادئة بين الرؤساء الثلاثة، ضمن لجنة رئاسية عقدت سلسلة اجتماعات متتالية في القصر الجمهوري، وانتهت إلى بلورة رؤية لبنانية بصياغة وطنية توازي الورقة الأميركية من حيث الشمول، وتتمايز عنها من حيث المرجعية، إذ تنطلق من الدستور اللبناني وميثاق جامعة الدول العربية لتثبيت السيادة الكاملة للدولة.

الرد اللبناني المرتقب لا يكتفي بالتفاعل مع النقاط الأميركية، بل يقدّم خارطة طريق لحل شامل لا يقتصر على الحدود الجنوبية مع إسرائيل، بل يعالج الملفات العالقة على الحدود الشمالية مع سوريا، وأزمة النزوح، ويطرح مقاربة شاملة لمجمل الملفات الداخلية. ويرتكز هذا التصور اللبناني على المبادئ الثابتة للدولة، وفي مقدّمها استعادة سيادتها الكاملة على أراضيها، وانسحاب إسرائيل من كل الأراضي المحتلة حتى خلف الخط الأزرق، وتثبيت الحدود البرية، ووقف الخروقات، والإفراج عن الأسرى، وإطلاق ورشة إعمار المناطق المتضررة، إلى جانب بدء مفاوضات جدية مع سوريا لترسيم الحدود وضبط المعابر وبحث كل الملفات الثنائية بلا استثناء، من منطلق الندية والتكافؤ بين الدولتين، وعلى قاعدة احترام السيادة المتبادلة.

لكن الأهم أن الورقة اللبنانية لا تُقدّم تنازلًا سياسيًا في مقابل حل أمني، بل تؤسس لرؤية متكاملة تنسجم مع ما تطرحه الدولة نفسها من إصلاحات بنيوية على مختلف المستويات، بدءًا من حصر قرار الحرب والسلم بيد الدولة، وتمكين المؤسسات العسكرية والأمنية من القيام بدورها الكامل في الدفاع عن الحدود ومكافحة التهريب والإرهاب، وإعادة الاعتبار للجيش كضامن وحيد للسيادة.

وترتكز هذه الرؤية على استعادة ثقة اللبنانيين بدولتهم عبر التزامها الجاد بتنفيذ القرار 1701 كاملاً دون اجتزاء، وبما يحفظ وحدة الأراضي اللبنانية ضمن حدودها المعترف بها دوليًا.

ويأتي هذا الرد في توقيت بالغ الأهمية، حيث تتقاطع فيه الضغوط الإقليمية مع الإخفاقات الداخلية، وتتعاظم التحديات المالية والاقتصادية، ما يحتّم الانتقال من منطق إدارة الأزمات إلى مقاربة متكاملة تعالج جوهر الخلل السياسي والإداري. ومن هذا المنطلق، تُدرج الورقة اللبنانية في متنها التزامًا واضحًا بإطلاق ورشة إصلاحات جذرية، تشمل إعادة هيكلة القطاع العام، وتفعيل الرقابة والمحاسبة، واستقلال القضاء، واستئناف التحقيقات المعطلة، لا سيما في جريمة انفجار المرفأ وقضايا الفساد الكبرى، إلى جانب المضي في خطة إنقاذ مالي مع صندوق النقد الدولي تحفظ حقوق المودعين، وتعيد الثقة إلى القطاع المصرفي، وتشجع الاستثمار والنمو.

ولأن أي استقرار لا يكتمل دون بنية اجتماعية متماسكة، تضع الورقة اللبنانية أولوية خاصة لتأمين التغطية الصحية الشاملة، وإنعاش التعليم الرسمي والجامعي، وإصلاح قطاع الكهرباء والمياه، وتحفيز الإنتاج الزراعي والصناعي، وتعزيز حضور لبنان الثقافي والعلمي، من خلال تطوير البحث العلمي وتبني التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي كركيزة للمرحلة المقبلة. كما لا تغفل الورقة التحديات البيئية والمناخية، فتُدرج خطة متكاملة للتعافي البيئي، خصوصًا في المناطق التي تضررت جراء الاعتداءات الإسرائيلية المتكررة، وتشدد على أهمية استدامة الإعمار وإدماج المعايير البيئية فيه.

من جهة أخرى، تعكس الورقة اللبنانية تفهمًا عميقًا لدقة الموقع الجغرافي والسياسي للبنان، وتعيد التأكيد على تحييده عن صراعات المحاور، وحفظ علاقاته المتوازنة مع الدول العربية والأجنبية، بما يُعيد تثبيت لبنان في موقعه الطبيعي داخل المشهد العربي، ويرسخ صورة الدولة التي لا تُستخدم منصّة لاستهداف أحد، بل كشريك مسؤول يسعى إلى الأمن والاستقرار في محيطه. وفي هذا السياق، تطرح الورقة بداية حوار جدي مع الدولة السورية، يستند إلى احترام السيادة وعدم التدخل في الشؤون الداخلية، ويهدف إلى معالجة تداعيات النزوح، التي تشكّل تحديًا وجوديًا للبنان.

ولا يغيب البُعد الفلسطيني عن هذا التصوّر، إذ يعيد لبنان تأكيد موقفه الثابت برفض التوطين والتهجير، والتمسك بحق العودة وفق القرار 194، مع الحرص على ممارسة الدولة سلطتها داخل المخيمات، بما يحفظ كرامة الفلسطينيين وحقوقهم الإنسانية. وهنا يظهر التوازن بين تأكيد السيادة من جهة، وحماية الكرامة الإنسانية من جهة أخرى، في ما يشبه مقاربة لبنانية للعدالة السياسية والإنسانية.

إن زيارة براك المقبلة لا تبدو عادية في سياقها ولا في توقيتها، بل تأتي في لحظة تتزاحم فيها الرهانات، ويبدو أن ما يُطرح على الطاولة قد يشكّل الفرصة الأخيرة للبنان كي يتقدّم خطوة نحو الخروج من الحلقة المفرغة. غير أن نجاح هذه الفرصة لن يكون مرهونًا فقط بحسن نية الخارج، بل بقدرة الداخل اللبناني على التماسك خلف مشروع الدولة، لا المشاريع المتناحرة. وفي هذا الإطار، تضع الورقة اللبنانية حجر الأساس لعقد اجتماعي جديد قوامه الدستور، يُعيد الاعتبار إلى الدولة كمؤسسة راعية وقادرة، تحظى بالهيبة وتُحتضن من مجتمعها، وتؤمّن لشبابها ومستقبلها طريقًا للبقاء، لا دروبًا للهجرة. فهل تلتقط القوى السياسية هذه اللحظة التاريخية؟ وهل يكون اللقاء المقبل مع الموفد الأميركي بداية المسار نحو الحل؟.