اخبار لبنان
موقع كل يوم -جريدة اللواء
نشر بتاريخ: ١٥ أيار ٢٠٢٥
لأنّو الدنيي هيك...
مقولة إشتهر وتميّز بها مختار «الدنيا هيك» الفنان والأديب والمربّي محمد شامل، كلما سؤل في المسلسل: «ليش هيك يا مختار»؟ كانت تختصر واقع الحال الإجتماعي.
أما توصيف المختار عند «الأخوان رحباني» ودوره فورد في أغنيتهما «بشيل الزير من البير واللي حِكمو بيمتدّ من الساحل للجرد واللي كلامو سيف قاطع ما بينردّ».
وقد غنّت له فيروز في المسرحية (الرحبانية) «ميس الريم»: «يا مختار المخاتير، بحكيلك الحكاية، أنا ما بحبّ الشرح كتير، ولا في عندي غاية، بدي تفلّلني بكير يا مختار المخاتير، وآه يا مختار المخاتير».
إذاً، تحوّل المختار إلى شخصية بارزة في المسلسلات الشعبية وفي المسرحيات الغنائية، ولعلّ ذلك ناجم عن كونه السلطة الأقرب إلى المجتمعات الشعبية وصلة الوصل بينها وبين السلطة في المناطق والقرى والبلدات، وذلك بحكم مكانته وحساسية دوره وحيوية موقعه بين الناس والدولة في مسائل أساسية وجوهرية، إذ أن وظائف المختار عدا عن الحاجة إليه لإتمام المعاملات الإدارية المعروفة، فهو لديه موجبات عدة في الأمن والأحوال الشخصية والشؤون المالية والعقارية والزراعية والصحية والتربوية.
ولأن مختار القرى والبلدات غيره مختار العاصمة أو المدن الكبيرة، حيث يختلف إطار التعامل الإجتماعي والمالي والعلاقات الإجتماعية والحضور السياسي بين مختار القرى ومختار المدن، فقد إنعكس هذا الإختلاف في إستحضار شخصية المختار في الأعمال الفنية، التي ميّزت بين المختار «الريفي» والمختار «المديني»، حيث أسهمت تلك الأعمال الفنية إلى حد بعيد في بلورة صورة نمطية للمختار، والتي تحوّلت مع الأيام إلى مرادف «فولكلوري»، وهي عادة ما تقترن برمزيّة الطربوش والشاربين والعصا والختم المعلق بسلسال يوضع داخل جيب «الخنباز» أو «الشروال»، ولاحقاً «البنطلون» مع مرور الزمن. فالمختار كان يتمسّك بالختم ولا يعطيه مجاناً لأي خليفة له. فكما تقول مسرحية «صح النوم» الختم «هو الدولة»، والمختار يتطلّع إلى الختم على انه الدولة التي تتحوّل في يده إلى أداة الحكم المحلي.
المختار في الريف اختلفت شخصيته بين عمل وآخر وبين منطقة وأخرى، فهي في «بيّاع الخواتم» مع المختار الذي أدّى دوره الممثّل والمطرب المبدع نصري شمس الدين طريفة هزليّة، تنسج من الخيال حكايا تسلّي الناس، وتستحوذ على تفكيرهم، فكان يقاتل راجح الكذبة، وحين سُرقت هويته قال ببساطة «أنا المختار بعمل غيرها». وفي «ميس الريم» كان مختار المخاتير إيلي صنيفر، حيث أراد «الرحابنة» من خلاله إظهار شيخوخة الدولة وهرمها. لكن إختلف المختار بعد ذلك في فيلم «سفر برلك» مع نصري وهو أكثر من أبدع في تأدية دور المختار، حيث الجديّة والمسؤولية والدور الأساس في عمل المقاومة وتأمين الطعام للأهالي، وهو يؤشّر إلى أنّ وجود المختار في القرى اللبنانية قديم جداً ويعود إلى الحقبة العثمانية.
أما في المدن وتحديداً في بيروت، فقد اختلفت شخصية المختار جذرياً من حيث الصورة والشكل والأسلوب عما هي عليه في الأرياف. هو المختار محمد شامل، «الحكواتي» البيروتي الأصيل، الذي جسّد دور المختار «المديني» الذي يرتدي البدلة و«الكرافات»، حيث أغنى الذاكرة الشعبية في مسلسل «الدنيا هيك» بقصص المختار وأهل الحي، فروى بحكمته المرفقة بنكتة طريفة أخباراً وتعليقات عن الواقع السياسي بالمعنى العام والإجتماعي اليومي، فضلاً عن معالجة «قضايا» الحي عن طريق المشورة والرأي الصائب، بما في ذلك الخلافات الزوجية التي كانت تقع باستمرار بين «زمرد» -فريال كريم - وعزيزي السلمنكي» - إلياس رزق - وبين «وردة» - ليلى كرم - و«أستاذ بلبل» - ماجد أفيوني.
بالرغم من الأسلوب الطريف الذي إعتمده شامل في تأديته لشخصية المختار البيروتي، فلم يسفّ يوماً ولم يلجأ قط إلى نكتة رخيصة أو موقف مفتعل أو حوار مبتذل من أجل الإضحاك، بل بقي محافظاً على المستوى الذي يليق بفنّه ومكانته الأدبية والتربوية والفنية، حيث كانت جملته الفنية الهادفة، تجمع ما بين البلاغة الأدبية البسيطة والنكتة الراقية، وهنا نستحضر أحد الحوارات في «الدنيا هيك» بينه وبين «زمرد»، التي تعبّر عن سمو أسلوبه ورفعته:
- ليش هيك تغيّرت الدنيي وتغيّرت العالم يا مختار؟
المختار: لأنو زاد الطمع وكتر الجشع وانعدم السمع.. ولأنّو الدنيي هيك...
رغم الإختلاف «النمطي» في الأعمال الفنية بين مخاتير المدن الكبرى كبيروت والقرى في الأرياف، إلّا أن قواسم مشتركة كانت تتسم بها شخصيّات المختارين «الفنية»، حيث كانوا يتمتعون بحسّ الفكاهة وسرعة البديهة والخاطر، دون أن يقلل ذلك من شخصياتهم، التي في الغالب كانت شخصية تمتاز بإحقاق الحقّ والكرم والحزم، وفي مقدّمة هذه الصفات محبة المختار للناس، فهو موضع ثقتهم، وتمتّعه بالصدق والاستقامة وسعة الصدر وسلاسة القول، وبُعد النظر وقوّة الشخصيّة والقدرة على الإقناع...
----------------
* إعلامي وباحث في التراث الشعبي