شهدت سوريا خلال الأشهر الأخيرة قراراً حكومياً يقضي برفع تعرفة الكهرباء بشكل جوهري، في خطوة تُعدّ من أبرز التحوّلات في سياسات الطاقة منذ سنوات طويلة. ورغم أنّ القرار يأتي في إطار مساعٍ رسمية لإعادة هيكلة قطاع الكهرباء ومعالجة عجزه المالي، إلا أنّ أثره المباشر على المجتمع والاقتصاد يُثير إشكاليات عميقة تتجاوز مجرد رفع سعر خدمة أساسية.

وتتعاظم أهمية هذه القضية في ظل الظروف المعيشية الصعبة، وتراجع القدرة الشرائية، وتباطؤ النشاط الاقتصادي، ما يجعل تقييم القرار ضرورة علمية واقتصادية.

تهدف هذه المقالة إلى تقديم تحليل أكاديمي نقدي للقرار، من خلال مناقشة مبرّراته، واستعراض آثاره الاجتماعية والاقتصادية، وتفحّص انعكاساته على بيئة الاستثمار، وصولاً إلى طرح توصيات عملية قد تسهم في إدارة أكثر توازناً لسياسات الطاقة.

أولاً: مبرّرات رفع التعرفة

تستند الجهات الرسمية في تبرير رفع تعرفة الكهرباء إلى جملة من العوامل البنيوية، أبرزها:

1. ارتفاع كلفة الإنتاج نتيجة تراجع البنية التحتية، وقدم محطات التوليد، واعتماد جزء كبير من الشبكة على وقود مستورد أو مرتفع التكلفة.

2. العجز المالي المتنامي في قطاع الكهرباء، حيث لم تعد التعرفة السابقة تغطّي جزءاً من تكاليف التشغيل والصيانة.

3. السعي إلى ترشيد الاستهلاك عبر استخدام أدوات سعرية تميّز بين مستويات الاستهلاك، بهدف تخفيض الطلب غير الضروري وتحسين كفاءة استخدام الطاقة.

4. تهيئة بيئة استثمارية جديدة في قطاع الطاقة عبر تحرير الأسعار تدريجياً، بما يسمح بدخول القطاع الخاص أو المستثمرين الخارجيين إلى مشاريع إنتاج وتوزيع الطاقة.

ورغم أنّ هذه المبررات تحمل منطقاً اقتصادياً في سياق إعادة الهيكلة، إلا أنّ تقييمها لا ينفصل عن قدرة المجتمع والاقتصاد على تحمّل تبعاتها.

ثانياً: الآثار الاجتماعية لرفع أسعار الكهرباء

لا يمكن إغفال أن الكهرباء تمثل خدمة أساسية تدخل في كل تفاصيل الحياة اليومية. وعليه، فإن رفع تكلفتها يُنتج نتائج اجتماعية متشعبة، من أبرزها:

1. تفاقم الأعباء المعيشية يشهد المواطن السوري منذ سنوات ضغوطاً معيشية غير مسبوقة، نتيجة تراجع الدخل الحقيقي وارتفاع تكاليف السلع والخدمات. رفع تعرفة الكهرباء يُضاف إلى سلسلة من الأعباء التي تثقل كاهل الأسر، وتدفع بعضها إلى تقليص استهلاكها إلى الحدود الدنيا، أو التخلي عن استخدام الأجهزة الكهربائية إلا للضرورة.

2. تأثيرات على العدالة الاجتماعية يطرح القرار سؤالاً جوهرياً حول العدالة في توزيع التكلفة؛ فالأسر ذات الدخل المحدود تدفع نسبة أكبر من دخلها مقابل الخدمات الأساسية مقارنة بالأسر الميسورة. كما أن بعض القطاعات غير النظامية أو التي تعتمد على مصادر طاقة بديلة قد تتحاشى تحمّل العبء، بينما يقع العبء الأكبر على الفئات النظامية.

3. انعكاسات على جودة الحياة الكهرباء ليست مجرد خدمة منزلية، بل هي عنصر أساسي في التعليم والعمل والصحة. أي ضغط إضافي على هذه الخدمة يؤدي إلى تراجع مباشر في مستوى الرفاه الاجتماعي، خاصة في ظل محدودية البدائل وانخفاض إمكانية الاعتماد على الطاقات المتجددة من قبل معظم الأسر.

ثالثاً: الآثار الاقتصادية للقرار

يمتد تأثير رفع التعرفة إلى قطاعات الاقتصاد كافة، نظراً لكون الكهرباء مدخلاً إنتاجياً أساسياً.

1. ارتفاع تكاليف الإنتاج تشكل الكهرباء عنصراً مهماً في تكاليف الصناعات التحويلية، والمعامل الغذائية، والورش الحرفية، والمنشآت الخدمية.

ومع ارتفاع التعرفة، تصبح كلفة المنتج النهائي أعلى، ما يدفع الأسعار إلى الارتفاع، ويضعف القدرة الشرائية، ويزيد معدلات التضخم.

2. تراجع القدرة التنافسية مع زيادة الكلفة التشغيلية، تصبح الصناعات المحلية أقل قدرة على المنافسة في الأسواق الداخلية والخارجية، في وقت تحتاج البلاد فيه إلى تعزيز الإنتاج المحلي وخفض الاعتماد على الاستيراد.

3. تضخم غير مباشر حتى القطاعات ذات الاستهلاك المحدود للكهرباء تتأثر بارتفاع أسعارها، لأن سلاسل الإمداد والنقل والتخزين والبيع جميعها تعتمد بشكل أو بآخر على الطاقة. أي زيادة في التكلفة ضمن أي حلقة تنتقل تلقائياً عبر سلسلة القيمة إلى المستهلك.

رابعاً: انعكاس القرار على بيئة الاستثمار

يُعدّ تأثير القرار على الاستثمار واحداً من المحاور الأكثر حساسية، إذ ترتبط الكهرباء مباشرة بقرارات المستثمرين سواء كانوا محليين أو أجانب.

1. زيادة تكلفة الدخول إلى السوق ارتفاع أسعار الكهرباء يعني ارتفاع تكلفة التشغيل، وهو عامل قد يدفع المستثمر إلى إعادة تقييم جدوى الاستثمار في سوريا، ولا سيما في القطاعات الصناعية والزراعية والخدمية كثيفة الطاقة.

2. تراجع جاذبية الاستثمار في وقت تسعى فيه البلاد إلى استقطاب رؤوس أموال لإعادة الإعمار، فإن رفع كلفة الطاقة من دون توفير ضمانات أو محفزات يُضعف من تنافسية البيئة الاستثمارية مقارنة بدول الجوار.

3. خطر توسع الاقتصاد غير النظامي مع ارتفاع الأسعار، قد يلجأ بعض المستثمرين أو المنشآت الصغيرة إلى طرق غير رسمية للحصول على الكهرباء، ما ينعكس سلباً على قدرة الدولة على ضبط القطاع وعلى جودة الاستثمار طويل المدى.

خامساً: نقد بنّاء للقرار

رغم أنّ رفع التعرفة قد يكون جزءاً من إصلاح مطلوب، إلا أنّ آليات تطبيقه وشروطه تثير عدة إشكالات، أبرزها:

1. غياب التدرّج في الرفع، إذ كان يمكن اتباع سياسة رفع تدريجي تتناسب مع قدرة المواطنين والمنشآت على التكيّف.

2. عدم تلازم الرفع مع تحسين الخدمة، وهو شرط أساسي لتقبل المجتمع لأي زيادة سعرية.

3. افتقار القرار إلى حزمة داعمة تشمل الأجور وبرامج الحماية الاجتماعية، ما يضعف الأثر الإيجابي المفترض للسياسة.

4. عدم وضوح الرؤية الاستثمارية للقطاع، وغياب آلية شفافة لتشجيع المستثمرين على دخول مشاريع إنتاج الطاقة المتجددة أو التقليدية.

سادساً: توصيات لتحسين إدارة ملف الطاقة

يمكن للقرار أن يتحول من عبء اجتماعي إلى خطوة إصلاحية ناجحة إذا رافقته الإجراءات التالية: 1. اعتماد رفع تدريجي للتعرفة وفق جدول زمني واضح يراعي الواقع المعيشي.

2. تحسين جودة الخدمة من خلال زيادة ساعات التغذية، وتحديث الشبكات، وتطبيق العدادات الذكية.

3. تقديم دعم موجه للأسر الأكثر هشاشة وللمنشآت الصغيرة لضمان استمراريتها.

4. تحفيز الاستثمار في الطاقة المتجددة عبر تسهيلات تشريعية وضريبية وتشغيلية. 5. معالجة الفاقد الكهربائي والسرقات لضمان عدالة توزيع التكلفة.

6. إرساء بيئة استثمارية مستقرة وواضحة تشجع رؤوس الأموال المحلية والخارجية على الدخول في مشاريع الطاقة. يمثل رفع أسعار الكهرباء في سوريا قراراً مفصلياً ستكون له آثار طويلة الأمد على المجتمع والاقتصاد والاستثمار.

وبينما يمكن فهم الحاجة إلى إصلاح قطاع الكهرباء، إلا أنّ نجاح هذا الإصلاح يتطل