اخبار سوريا
موقع كل يوم -الجماهير
نشر بتاريخ: ٢٦ تشرين الثاني ٢٠٢٥
الجماهير|| جهاد اصطيف..
في حي الشيخ سعيد، تصف أم جابر الصباحات الأخيرة بقولها: مجرد أن نفتح النوافذ يدخل الدخان، ابني الصغير يعاني من سعال شبه دائم، والهواء في بعض الأيام يصبح ثقيلاً إلى حد الاختناق.!؟
ونسرد لكم حكايات أخرى من أحياء غير بعيدة.. فلم تعد شكاوى أهالي حلب بشأن تلوث الهواء مجرد أصوات متناثرة، بل تحولت إلى ظاهرة ملحة تفرض نفسها على يوميات السكان، لا سيما في الأحياء الجنوبية والشرقية من المدينة، بين روائح الاحتراق التي تنبعث في الجو، وغبار أسود يعلق على الشبابيك، وحالات سعال متفاقمة لدى الأطفال، تتكشف صورة مقلقة، هواء المدينة لم يعد نظيفاً كما يبدو، بل يجري تلويثه يومياً بطرق متعددة، بعضها عشوائي وبعضها ناتج عن نشاطات صناعية خارج الرقابة.
في سطورنا هذه نتقصى جذور المشكلة، نحاور الأهالي والخبراء، ونطرح أسئلة ضرورية حول غياب إجراءات حاسمة للحد من الظاهرة.
ميدان يخنقه الدخان
حال الشيخ سعيد لا يختلف كثيراً في الراموسة أو في أطراف صلاح الدين والعامرية، حيث يشاهد السكان غيوماً سوداء تتصاعد من مواقع محددة، يصفها أحد الأهالي بأنها أقرب إلى الحرائق المنظمة منها إلى مجرد حرق نفايات عابر.
مصطفى درمش، عامل نقل في المنطقة الصناعية، يقول: نشاهد شاحنات صغيرة تفرغ حمولات مختلطة من نفايات وكابلات قديمة، وبعد دقائق يبدأ الدخان بالتصاعد، نحن نعمل في العراء، ولا أحد يحمينا من هذه الروائح أو الغازات.
وتؤكد مقاطع مصورة نشرها ناشطون محليون وجود عمليات حرق ليلي في مواقع معروفة للأهالي، بحيث يستخدم الليل لتجنب المراقبة، بينما تتغلغل الروائح في الأحياء المجاورة تحت غطاء الظلام.
من يحرق ماذا؟
بحسب الشكاوى، تتكدس النفايات المنزلية والصناعية في بعض النقاط، خاصة في أطراف المناطق الصناعية، وتحرق بهدف التخلص منها أو بفعل ممارسات فردية، هذا النوع من الحرق يطلق جسيمات دقيقة وغازات سامة تشمل المركبات العضوية والعناصر الثقيلة.
أما حرق الكابلات، فهي ممارسة غير قانونية، لكنها منتشرة لكونها مصدر دخل سريع، إذ يقوم بعض الأفراد بجمع كابلات تالفة ثم إحراق غلافها البلاستيكي بهدف الوصول إلى السلك المعدني وبيعه، عملية الحرق هذه تطلق غازات شديدة الخطورة، بخاصة إذا كانت الكابلات مغلفة بمواد كلورية.
وكذلك حرق الإطارات، التي يستخدمها البعض لإنتاج حرارة أو التخلص منها، لكن دخانها يحتوي على خليط سام يشمل مركبات خطيرة، دون أن نغفل معامل ومولدات وأسطول مركبات متقادمة، ففي بعض المناطق الصناعية الصغيرة تعمل منشآت دون تجهيزات للحد من الانبعاثات، إضافة إلى مولدات أمبيرات تعمل غالباً بزيت محروق أو ديزل منخفض الجودة، وسيارات قديمة تصدر كميات كبيرة من الدخان.
ما الذي نستنشقه تحديدًا؟
يؤكد الدكتور محمد عبد الغفور، اختصاصي أمراض صدرية، أن نوع التلوث الذي يبلغ عنه السكان يعد من أخطر أنواع التلوث الهوائي، موضحاً أن الجسيمات الدقيقة الناتجة عن الحرق المفتوح تخترق عمق الرئة وتسبب التهابات مزمنة، وقد تؤدي إلى ازدياد أمراض الربو والحساسية والتهابات القصبات، فضلاً عن ارتباطها الطويل الأمد بأمراض خطيرة أخرى.
ويضيف: الخطورة تتضاعف لدى الأطفال وكبار السن، حالات التحسس التنفسي التي نستقبلها في الآونة الأخيرة تزداد بشكل ملحوظ.
أما الخبيرة البيئية لبنى الصالح، فتوضح أن حرق الكابلات والإطارات تصنف عالمياً ضمن أخطر الملوثات المعروفة، لأنها تبقى في الهواء والبيئة وترتبط بآثار مسرطنة.
وتتابع: المشكلة ليست فقط في المصادر الصغيرة، التراكم المستمر للدخان يخلق ' غمامة تلوث ' ثابتة ترفع معدلات التلوث إلى مستويات خطرة، خصوصاً في غياب أي رصد رسمي معلن لنوعية الهواء.
غياب بيانات ووعود بالإجراءات
رغم اتساع الشكاوى خلال الأسابيع الأخيرة، لم تصدر الجهات المحلية بيانات توضيحية كافية حول حجم المشكلة أو نتائج قياس جودة الهواء في الأحياء المتضررة.
مصدر في إحدى المديريات الخدمية – فضل عدم ذكر اسمه – يقول إن الحرق العشوائي مشكلة قائمة، والكوادر غير كافية، وهناك صعوبة في ضبط بعض الممارسات الفردية خاصة ليلاً، لكنه يعترف بأن حاجة المدينة لخطة مشتركة بين البيئة والصحة والنظافة أصبحت ضرورة عاجلة.
ويشير عاملون في القطاع الخدمي إلى أن بعض المعامل الصغيرة تعمل ' خارج الرقابة التنظيمية ' أو تعتمد على وقود رديء، ما يزيد الانبعاثات.
ماذا يمكن فعله؟
يجمع الخبراء على أن معالجة المشكلة ليست مستحيلة، لكنها تحتاج إلى إرادة ورقابة فعالة، وتبرز بعض الخطوات العملية أهمها، إيقاف الحرق المفتوح فوراً من خلال دوريات مفاجئة، ومراقبة مواقع تجمع النفايات، وتوفير بدائل نظامية للتخلص من النفايات الصناعية، وتنظيم ورش جمع الخردة بإعطاء تراخيص مشروطة وتشجيعهم على التسليم لمراكز إعادة تدوير بديلة بدل الحرق، وإلزام المعامل الصغيرة بمعايير بيئية واضحة
بما يشمل تركيب فلاتر للانبعاثات ومنع استخدام الوقود الرديء، وإنشاء نقاط مراقبة لنوعية الهواء ونشر النتائج، الأمر الذي يساعد في تحديد المناطق الأكثر تضرراً وتوجيه الإجراءات إليها، وإقامة حملات توعية صحية في المدارس والمراكز الطبية.
بين الأزمة والحلول.. يحتاج الهواء إلى من يحميه
حلب مدينة أنهكتها الحرب، لكنها اليوم تواجه معركة مختلفة، معركة الهواء، فالتلوث الذي يتسلل إلى البيوت ليلاً ونهاراً لا يمكن اعتباره حدثاً عابراً أو مشكلة ثانوية، إنه ملف يمس صحة مئات الآلاف من السكان، ويستحق اهتماماً رسمياً لا يكتفي بالتعهدات، بل يترجم إلى إجراءات ملموسة وسريعة، فإنقاذ هواء المدينة ليس رفاهية، بل حق أساسي لأهلها.. وواجب على الجهات المعنية قبل أن يصبح الضرر أكبر من أن يعالج.
#صحيفة_الجماهير




































































