اخبار سوريا
موقع كل يوم -تلفزيون سوريا
نشر بتاريخ: ٢٥ كانون الثاني ٢٠٢٥
خلود الأعمال الفنية مرتبط بتعدد قراءتها، وإمكانية إسقاطها على الماضي والحاضر، وقدرتها على التنبؤ بالمستقبل.
هذا هو حال مسلسل 'الواق واق'، الذي لم يأخذ حقه من المشاهدة، لمقارنته بمسلسل ضيعة ضايعة، والخربة، إضافة لقلة المحطات التي عرضته، كما أن كثرة الشخصيات ذات الطابع الخاص والتي تمتلك كلا منها لازمة كلامية تكررها، جعل إيقاع الحلقات الأولى بطيئا يوحي بالتكرار، ورغم كونه عملاً نخبويا، لكنه ليس بعيدا عن الناس، فرسائله العميقة وصلت واضحة للمشاهد بقالب كوميدي ساخر. ولعل هذه النخبوية هي ما أغرت فنانا كبيرا مثل كاظم الساهر ليغني شارة المسلسل بالتعاون مع الملحن طاهر مامللي.
هل ظلمنا عملاً فنياً استثنائياً؟
منذ سنوات كتبت مقالا تطرقت فيها إلى الذات الرئاسية المنزهة عن النقد أو الخطأ في الدراما السورية، عندما أقرأ هذا المقال اليوم بعد سقوط النظام، وبعد مشاهدة هذا السِّفر الدرامي العظيم، أجد أني كنت متحاملا على صناعة الدراما لنفيي إنتاج أي عمل ينتقد الذات الأسدية.
مسلسل الواق واق كسر فرضيتي السابقة، لأن كمية إسقاطاته على رئيس النظام السابق كثيفة، وتتجاوز النظام البائد لتتدخل في تفاصيل مشهد اليوم، فما يحصل اليوم هو تجسيد لمسلسل الواق واق بكل تفاصيله. اختلافات الناس حول شكل الحكم وتوزيع الثروة والسلطة، اختلافات ناتجة عن مرجعياتهم الفكرية والعقدية والطائفية والدينية والعرقية المتباينة، واختلافات حول تاريخ الطوائف والملل والنحل، ومحاولة كل فريق هندسة الدستور والقوانين والسلطة وفقا لمصالحه، وأفكاره.
المتن الحكائي وشخصيات المسلسل
ثيمة المسلسل الكوميديا، وتدور أحداثه فوق جزيرة منسية، لذلك جاءت تسمية المسلسل تيمنا بجزر 'الواق واق' المذكورة في مرويات كتب التراث، ولا إثبات تاريخي على وجودها. تبدأ الأحداث بعد غرق سفينة يقودها ربان فاشل وفاسد، يهرب الأسلحة والمخدرات والبشر على ظهر السفينة، فيجتمع الناجون من الغرق وهم سبعة عشر رجلاً وامرأة هربوا من بلدهم بسبب الحرب والتهميش والفساد إلى الحلم الأميركي الواعد. المسلسل من تأليف ممدوح حمادة، ومن إخراج الليث حجو.
شخصيات المسلسل إسقاط حي ومباشر على صفات لشخصيات النظام السوري السابق، السياسية منها والعسكرية وحتى شخصيات مافيا الاقتصاد ورجالات 'الدولة' التي تحاول التكويع على أمل التطبيع مع الشعب السوري الطيب.
الشخصيات القيادية
رشيد عساف (المارشال دبل ركن مجاز مش مح عرفان الرقعي): منذ بداية المسلسل يروج وهو مقتنع أن البنتاغون يشاهدهم على الجزيرة ويرصد أفعالهم، لكن هذا الخطاب الترويجي لجمهوره لم يمنعه من تزوير الرتبة العسكرية، وترقى إلى مارشال دفعة واحدة خلال خمس دقائق، وهو نفس الزمن الذي رُفّع فيه الأسد الهارب بمجلس الشعب بعد وفاة أبيه.
عندما شاهدوا سفينة عابرة، أمرهم بحرق المخيم، وعندما يأسوا من مشاهدتها لنيرانهم قال لهم بلغة الواثق أنها فرقة استطلاع أرسلها البنتاغون لتحدد موقعه. وطيلة حلقات المسلسل يفسر كل الأمور وفق زاوية نظره القاصرة عن إدراك الواقع المعقد، ليقتنع أن تصوره هو الحقيقة، وهذا إسقاط شديد الوضوح على الأسد الهارب بحسب ما قال رئيس المكتب الإعلامي في قصره للمذيع حسين الشيخ، بأن الرئيس الهارب يحور القضايا لفهم معين يؤمن به.
تتنافس هذه الشخصية مع 'طنّوس شيخ البحر' والذي لعب دورها باسم ياخور (كابتن)، شخصية تفتخر بفشلها وفسادها؛ فقد أغرق أكثر من 35 سفينة، ودائما يهرب بقارب مطاطي لأقرب جزيرة ويترك الناس تواجه مصيرها، وهنا تنبأ ممدوح حمادة بما فعله الأسد ربان سفينة النظام الحاكم الهارب الفاسد والذي لا يمتلك أخلاق القادة، فالربان آخر من يغادر السفينة.
وتأتي شخصية جرجس جبارة (الدكتور معيط)، الذي يدعي زورا أنه يملك شِحنات السفن الغارقة وبالتالي، فكل ما يقذفه البحر على ضفاف الجزيرة من أطعمة وحيوانات هو ملكه، ولهذه الشخصية إسقاطاتها الكثيرة على رجال مافيا الاقتصاد السوري الذين استملكوا أملاك الدولة دون رقيب أو حسيب.
يحاول الدكتور معيط استمالة المحامية سناء الزبلطاني (الممثلة شكران مرتجى) النسوية المتشددة ضد الرجال، وضد كل من يعاكس مصالحها المختلفة.
الشخصيات الثورية والثقافية
شادي الصفدي (المعارض رشوان)، الشخصية الثورية الثابتة على مبدئها، حيث تعرض للاعتقال والتعذيب قبل الهجرة وعلى الجزيرة، وبفضل نضاله وثباته على قيم الثورة، تخلص الجميع من الاستبداد وغادروا الجزيرة بحثا عن ملاذ آمن آخر، يحاول أن يشكل مع مغنية الأوبرا رولا، والشاعر ولات، نواة أولية للثورة بالفن والكلمة، يساندهم ورطان كربجيان (مهندس ورائد أعمال ناجح)، وخطيبته عالمة الآثار بتول، وما يعيق زواجهما أنهما من دينين مختلفين، فيلجآن إلى المحامية 'سناء' لتوثيق عقد زواج مدني، لكن المحامية تحتاج إلى ختم دائري لتثبيت العقد المدني لزواجهما، كون العقد الشرعي غير جائز، والختم الدائري يحتاج إلى تصريح، لتعود جميع المشاكل المؤجلة عن اسم الجزيرة الذي سيكتب في التصريح؛ فرشوان يريدها: كومونة درة الزبد، وتيسير (الإسلامي) يريدها: ولاية أو خلافة درة الزبد، بينما يريدها المارشال: جمهورية درة الزبد البحرية.
ثم بدأوا بالخلاف حول الرمز؛ فالمارشال يريد رموزا توحي بالقمع كالبندقية والسيف، بينما رشوان يريد رموزا لها علاقة بالحياة (سنبلتين، قلمين، كتابين...).
وكنتيجة لعدم الاتفاق على الرمز، يتأجل تقديم التصريح، ويتعطل الزواج المدني بين ورطان وبتول، بتطابق تام مع الواقع وآليات حل المشاكل في نظام الأسد البائد، وكل دولة يحكمها الفساد المغلف بالبيروقراطية.
عناوين الحلقات.. رحلة السوريين إلى فجر الحرية
لكل حلقة من حلقات المسلسل اسم خاص، وموضوع مختلف، لكن تسلسل الحلقات بعناوينها المميزة يجسد رحلة السوريين مع نظام الأسد في عهدي الاب والابن، بدءا من الحلقة الأولى المعنونة بالخريطة، عندما يبحث الناجون عن دليل يرشدهم إلى أميركا؛ ليتطوع المارشال لقيادتهم، مرورا بحلقة 'خلية الأزمة' التي لها ما يطابقها بالواقع 'خلية إدارة الأزمة'، ثم حلقة 'بطاقة بحث' عندما يصبح كل الشعب مطلوبا لـ 'عدالة' المارشال المختل نفسيا، وانتهاء بنجاة الشعب، وهلاك الطاغية على الجزيرة المهجورة.
البداية والنهاية وكثافة الإسقاطات
لا يمكن لمقال أو كتاب إن يحصي إسقاطات المسلسل الكثيفة، والعميقة، وأحيانا المباشرة، ففي شارة النهاية للحلقات رسمت خريطة سورية على شكل بوابة لمغارة بحرية، ينجو عبرها شعب الجزيرة الثائر، كما أن بداية ونهاية المسلسل يمكن أن تبين رسالة العمل وبعضا من إسقاطاته.
في شارة المسلسل كتب: 'سبعة عشر رجلاً وامرأة. هربوا بأحلامهم إلى قلب العاصفة، أملهم الوحيد هو بناء مجتمعهم الفاضل من جديد'.
في الحلقة الثانية 'انتحال شخصية' وجدوا عبارة 'نحن 50 رجلاً وامرأة بقيادة الفارس خبط نصرا غرقت سفينتنا على شواطئ هذه البلاد، سنتعلم لغتهم ونعلمهم لغتنا، سنقدم لهم علمنا ونأخذ عنهم علمهم ثم سنبني سفينة، ونعود إلى بلادنا بقياده فارسنا المعظم خبط نصرا' مكتوبة بلغة قديمة على شاهدة أحد القبور الـ49 ثم وجدوا هيكلا عظميا، فاستنتجوا أنه لم يجد من يدفنه.
لكنهم عندما نبشوا القبور في حلقة 'البحث عن تاريخ' بحثا عن مقتنيات أثرية مع المدفونين، ليكتبوا تاريخا منتحلا منها، لم يجدوا جثثا ولا آثارا.
في المشهد الأخير عندما نجح الشعب بصناعة مراكب النجاة من الجزيرة المنسية، بقي المارشال لاجئا وحيدا منسيا مع المواشي، وعندما تيقن من الهلاك، كتب على شاهدة أحد القبور العبارة التالية: 'نحن خمسين رجلا وامرأة بقيادة المارشال دبل ركن مجاز مش مح عرفان الرقعي، جنحت سفينتنا إلى هذه الأرض وقمنا ببناء حضارة عريقة، ودولة قادة المارشال عرفان الرقعي إلى المجد'.
وهو عدد القبور الموجودة دون جثث سابقا، أي أن هناك طاغية آخر مات وحيدا على الجزيرة المهجورة وهذا يشير إلى أن نهاية الطغاة واحدة وان اختلفت أشكال النهايات.