اخبار سوريا
موقع كل يوم -اندبندنت عربية
نشر بتاريخ: ٢٥ شباط ٢٠٢٥
يشترط مراقبون خلق دولة جديدة تبتعد من ثقافة المجتمع المتجانس وتعمل نحو خلق آخر متناغم قوامه الوحدة في التعدد والتنوع
لم يكن التدخل الإيراني في سوريا مشابهاً للتدخل الروسي، لا من حيث النوعية ولا من حيث الأهداف، إذ إن كلا الطرفين دخلا لدعم نظام الأسد عسكرياً وسياسياً ومحاولة منع سقوطه، إلا أن موسكو بدت أهدافها مختلفة عن طهران، كما أن الطرفين تنافسا في قطاعات مختلفة خلال وجودهما في سوريا بعد عام 2011.
بالنسبة إلى إيران، كانت تريد من سوريا أن تكون ضمن 'المحور الإيراني' والذي يسمى 'محور المقاومة' بهدف تحقيق نظرية 'وحدة الساحات'، بحيث يسهم نظام بشار الأسد في تسهيل دخول الأسلحة والدعم لـ'حزب الله' اللبناني، وفي المقابل قدمت له آلاف العناصر من الميليشيات الطائفية لمواجهة السوريين، أما الهدف الثاني ولعله الأهم إحداث تغيير في التركيبة السكانية لسوريا.
وفي عام 2011، كانت الغالبية العظمى من سكان سوريا هم من العرب المسلمين السُّنة، ويشكلون أكثر من 70 في المئة من إجمال سكان البلاد، أما الباقون فهم طيف واسع من مختلف الطوائف والأعراق، وهي صورة عكست فسيفساء سورية لها إيجابياتها وقت السلم، وسلبياتها وقت الحروب، وهنا عملت إيران على محاولة تغيير مسار الثورة، التي كانت في البداية تطالب بإصلاح سياسي في البلاد على أساس وطني، إلى مسار طائفي.
عمل قائد فيلق القدس السابق في الحرس الثوري الإيراني قاسم سليماني على محاولة اختزال الثورة الطائفية في 'التكفيريين'، وأسهم في نشر التشيع وعقد اتفاقات التهجير التي نقلت عشرات الآلاف من سكان الغوطة الشرقية في دمشق، والجنوب السوري ومدينة حمص إلى الشمال السوري بالباصات الخضراء الشهيرة.
اللافت للانتباه أن كثيراً من قوافل باصات التهجير الخضراء كانت عندما تنطلق من غوطة دمشق إلى حلب لا تسلك مسارها الطبيعي، فكانت تجري في بعض الأحيان جولة على بعض القرى العلوية في الساحل السوري قبل أن تذهب إلى الشمال، وهو ما عد محاولات إيرانية أخرى لزيادة الشرخ الطائفي داخل البلاد.
خلال الثامن من ديسمبر (كانون الأول) 2024، سقط نظام الأسد وكان هذا الحدث التاريخي إعلاناً بخسارة إيران لسوريا، وبهذه الخسارة تحطم جميع المشاريع الطائفية التي أنفقت لأجلها إيران مليارات الدولارات، وقتل بسببها كبار قادة الحرس الثوري ومئات العناصر، لكن هل خروج طهران من سوريا يعني انتهاء قضية التغيير الديموغرافي؟ وهل يعود التوازن الديموغرافي للبلاد؟ وهل تختفي الطائفية من سوريا بعد هذه الملحمة؟
أهداف التغيير الديموغرافي
الدكتور نجيب جورج عوض هو باحث أكاديمي وأستاذ جامعي سوري وبروفيسور اللاهوت المسيحي ورئيس برنامج الدكتوراه في كلية هارفرد للدراسات الدينية وحوار الأديان في ولاية كونيتيكت الأميركية، يقول في حديثه إلى 'اندبندنت عربية'، إن 'التغيير الديموغرافي في سوريا لم يكن مقترناً شرطياً بوجود إيران في البلد، بل كان نتيجة سياسة ممنهجة مارسها النظام من أجل خلق ما تحدث عنه بشار الأسد من خلال مفاهيم (سوريا المفيدة) و(المجتمع المتجانس)... عودة التوازن الديموغرافي تعني خلق سوريا جديدة تبتعد من أيديولوجية (المجتمع المتجانس) وتعمل نحو خلق (مجتمع متناغم) قوامه (الوحدة في التعدد والتنوع)، هذا وحده هو الكفيل بجعل جميع أطياف وجماعات وشعوب سوريا تشعر بأنها تنتمي للبلد وأنها جزء لا يتجزأ من كيان سوريا البشري'.
بخصوص مشاريع نشر التشيع والتغيير الديموغرافي التي عملت عليها إيران في سوريا، يؤكد البروفيسور جورج عوض أن 'تلك المشاريع تركت آثاراً جانبية وتأثيرات سلبية في البلد وفي بنية المجتمع، وإن كانت لم تحقق أهدافها وغاياتها بصورة كاملة وكلية'. وينوه عوض إلى أنه 'علينا فقط أن ننتبه هنا إلى أن مغادرة المسيحيين واليهود للبلد لم تبدأ فقط مع تنامي الوجود الشيعي فيها، التناقص الديموغرافي المسيحي واليهودي له تاريخ قديم يعود إلى مرحلة ما بعد الاستقلال، ومعظم يهود سوريا هاجروا إلى إسرائيل مع تأسيس دولة لليهود في فلسطين بدءاً من خمسينيات القرن الـ21، والمسيحيون كانوا وما زالوا يعيشون حال هجرات متتالية ومستمرة من سوريا ومن المشرق العربي عموماً نحو الغرب منذ عقود طويلة تعود لبدايات القرن الماضي، وتنامت وتزايدت مع وصول الأسد و’البعث‘ للسلطة ومن ثم اندلاع الثورة السورية الأخيرة والحروب بين القوى الأممية والإقليمية داخل سوريا'.
ويرى البروفيسور السوري أن 'مشروع النظام الأسدي البعثي للتغير الديموغرافي فشل، ولكن هناك تغييرات ديموغرافية بنيوية ما زالت تعانيها سوريا، مثل التغيير الديموغرافي الذي حدث في محافظة إدلب وشمال سوريا ومنطقة الجزيرة، نعلم أن معظم أهل إدلب من كافة الخلفيات غادروا مناطق عيشهم بسبب دخول جبهة النصرة و’هيئة تحرير الشام‘ إليها، وهم لم يعودوا بعد إلى بيوتهم ومناطقهم ليعاودوا العيش فيها، نعلم أيضاً أن كثيراً من أهل الجزيرة اضطروا إلى النزوح من مناطق عيشهم بسبب الهيمنة الكردية والوجود الداعشي، وهم كانوا من كل الخلفيات ولم يعودوا بعد إلى مناطق عيشهم الأصلية، نعلم كذلك أن سوريا اليوم تحوي أكثر من 40 ألف متطرف إسلاموي أجنبي غير سوري، وأن هناك رغبة بتوطينهم ومنحهم جنسيات سورية، من ثم توطينهم في مناطق كانت تعود لسوريين من أهل الأرض... هذه كلها أمثلة تغييرات ديموغرافية عميقة وحقيقية ما زالت موجودة في المشهد وهي لم تفشل أو تنتهي بعد'.
خطوات تغيير التركيبة السكانية
من جهته، رأى الباحث السوري المتخصص في الشأن الإيراني ضياء قدور أن 'قضية التوازن الديموغرافي في سوريا تعد واحدة من أبرز الملفات التي شغلت الاهتمام الإقليمي والدولي، وبخاصة مع الوجود الإيراني في البلاد الذي كان يسعى إلى إحداث تغيير ديموغرافي في بعض المناطق السورية. وسعت طهران منذ بداية تدخلها في سوريا إلى تغيير التركيبة السكانية في مناطق كانت تعد معظمها سنية، عبر تشجيع توطين عائلات شيعية في هذه المناطق وتحقيق نفوذ طويل الأمد، لكن على رغم الجهود الكبيرة التي بذلت فشل هذا المشروع في تحقيق أهدافه بصورة كاملة'.
وقال قدور إن 'أحد الأسباب الرئيسة التي أدت إلى فشل هذا التغيير هو عامل الزمن، إذ إن عملية التغيير الديموغرافي التي قادتها إيران كانت تحتاج إلى فترات طويلة لتتمكن من التأثير بصورة كبيرة على التركيبة السكانية، وشكل انتصار الثورة السورية أهم العوائق أمام تحقيق أهداف إيران في تغيير التركيبة السكانية بصورة دائمة، واستطاع الثوار في كثير من الأحيان الحفاظ على مناطقهم وإعاقة الخطط الإيرانية التي كانت تسعى إلى تحويل بعض المناطق إلى مناطق ذات غالبية طائفية معينة'.
وعدَّ أن 'الظروف الاقتصادية المتدهورة كانت عاملاً مساعداً لمشروع إيران، بل يمكن القول إنها وفرت أرضاً خصبة لهذا التغيير، إذ إن فقدان الثقة بالنفس في ظل الحرب المستمرة والتدهور الاقتصادي جعل عدداً من المواطنين السوريين، خصوصاً في المناطق الفقيرة، يلجأون إلى معتقدات دينية جديدة كانت توفر ملاذاً آمناً في وقت كانت فيه الحياة اليومية تتسم بالاضطراب وعدم الاستقرار، وكان هذا التدهور الاقتصادي يسهم في تقوية النفوذ الإيراني الذي كان يستخدم الحوافز المادية والدينية لتوطين عائلات شيعية في مناطق معينة، من ثم وعلى رغم المحاولات المستمرة لتغيير الواقع السكاني لم يتحقق التوازن الديموغرافي بالصورة الذي كانت إيران تأمل فيها، في ظل الظروف السياسية والعسكرية التي لا تزال تعيشها البلاد، ومع مرور الوقت أصبح واضحاً أن تحقيق التغيير الجذري في التركيبة السكانية يحتاج إلى زمن طويل، وهو ما يصعب تحقيقه في سياق الأحداث السريعة التي شهدتها سوريا خلال عام 2024'.
هل تختفي الطائفية من البلاد؟
من وجهة نظره، ذكر البروفيسور نجيب جورج عوض أنه 'لا يوجد طائفية في سوريا، بل يوجد طوائفية وهناك فرق بنيوي وعميق وصارخ بين الحالتين. سوريا فيها تعدد طوائفي وهذا أمر صحي وبناء، وفيه غنى وعمق مجتمعي للبلد، ما لم تعان سوريا منه في الماضي هو الطائفية، وهي أيديولوجية سوسيولوجية تقوم على تصنيف الذات قيمياً وشيطنة الآخر والانعزال عنه والتعادي التضادي معه، نحن لم نكن كلبنان، إذ أصيبت طوائفها بمرض ’الطائفية‘ ودخلت في حرب أهلية، أما سوريا فلم تصب بمرض الطائفية، ولهذا ما حدث فيها في السنوات الماضية لم يكن حرب أهلية على الإطلاق ومن الخطأ العلمي والتحليلي والموضوعي أن نقول إن ما حدث في سوريا كان ’حرباً بين الأهالي‘ أو ’حرباً بين الطوائف‘، بل كانت ’حرباً ضد جميع الأهالي‘، و’حرباً على كل الطوائف‘ شنها نظام مجرم بربري سفاح'.
ومضى في حديثه 'أخاف من تفشي مرض الطائفية بين طوائف سوريا الآن في هذه المرحلة، بسبب الأعمال الفردية الانتقامية والعنفية والعدائية والتكفيرية والأصولية التي تمارسها فئات معينة مسلحة باسم الإدارة الحالية وتحت غطائها التسامح معها ضد شرائح مجتمعية أخرى في المشهد السوري، وكذلك فإن غياب تطبيق العدالة الانتقالية والإمعان في احتضان مجرمي النظام السابق وفاسديه وأتباعه قد يدفع الشارع السوري إلى التشظي والتفكك طائفياً، بعد أن كان يتمتع بالتنوع والتعدد والتناغم طوائفياً'.
قدور نبه إلى أنه 'مع استمرار الصراع، بات من المؤكد أن الطائفية لن تختفي بسهولة من المشهد السوري، لكنها قد تظل موجودة تحت سطح الأحداث في صورة متفاوتة، لكن ما يمكن أن يتغير هو وعي المجتمع، إذا توافرت فرص للمصالحة الوطنية، وإعادة بناء البلاد على أسس أكثر شمولية، وتتطلب هذه العملية عدالة اجتماعية وتعاملاً دقيقاً مع جميع المكونات الاجتماعية والطائفية بما يضمن السلام والاستقرار طويل الأمد'.
هل يعود مسيحيو سوريا؟
الحرب التي شنها النظام السابق في سوريا ضد شعبه من مختلف الأعراق والطوائف، تسببت أيضاً بهجرة لعدد كبير من مسيحيي سوريا والآن بعد سقوط النظام يسأل كثر في ما إذا كان مسيحيو سوريا سيعودون إلى وطنهم. وهنا يجيب البروفيسور جورج عوض بقوله إن 'المراقب العلمي لا يستطيع أن يتنبأ بالمستقبل ولا يجب أن يفعل ذلك، المؤشرات الموجودة اليوم في الساحة والمتوافرة بين أيدينا تقول إن إمكانية العودة ضعيفة إن لم تكن غير واردة، كما نسمع من كثير من المسيحيين في الخارج، هناك أفراد باتوا يودون بشدة زيارة البلد والتردد عليه من جديد، وبخاصة الذين لديهم عائلات ما زالت تحاول النجاة في أرض سوريا المحروقة... ولكن، هل يعني هذا أنهم سيعودون للاستقرار داخل البلد من جديد؟ هذا سؤال مفتوح وبرهن تطورات الوقائع على الأرض في سوريا، إن تحولت سوريا إلى نموذج سني معادل للنظام في إيران، فلن يعود المسيحيون (وربما كثير من المسلمين السوريين أيضاً) إلى سوريا، ولكن إن تحولت سوريا المستقبل إلى نموذج يشبه تركيا أو الإمارات فأعتقد أن هذا سيشجع كثيراً من المسيحيين على العودة والمساهمة في بناء البلد'.
يختلف الباحث السوري حسام جزماتي مع عوض وقدور، معتبراً أن ما جرى من تغيير للتركيبة السكانية في سوريا كان 'هدفه قمع الثورة وتغيير الوجه السياسي بالمنطقة، فالسكان السوريون كانوا رافضين لوجود بشار الأسد بالسلطة، فتم تهجيرهم لرفضهم النظام، وبالمعنى الاصطلاحي لم يكن هناك تغيير ديموغرافي بقدر ما كان هذا التغيير سياسي، أما بالنسبة إلى الذين تهجروا واللاجئين فهؤلاء عودتهم مرتبطة بإعادة الإعمار، أو في الأقل وجود حد أدنى من الخدمات الأساس'.
وقال جزماتي إن 'المشاعر الطائفية في سوريا كانت موجودة حتى قبل الثورة، لكنها لم تكن متأججة، والآن هي تحتاج إلى وقت طويل كي تختفي، ومما سيسهم في اختفاء الطائفية في سوريا هو تحقيق العدالة في البلاد'.
وفي المحصلة النهائية يبدو أن جميع ما أنفقته إيران من أجل إحداث تغيير ديموغرافي في سوريا تلاشى كلياً، أما في ما يتعلق باختفاء اللغة الطائفية من البلاد فقد يكون ذلك مرهوناً بقيادة سياسية تراعي التنوع الذي تمتاز به سوريا عرقياً وطائفياً، والحل في ذلك يكمن بدولة مدنية.