اخبار سوريا
موقع كل يوم -صحيفة تشرين
نشر بتاريخ: ٢ كانون الأول ٢٠٢٤
تشرين- إدريس مراد:
'أيا رفيق روبسون.. مغني العالم
من أتباع السلام… عالمُ وإنسان
شجاع.. عدو العنصرية
فوق الجبال.. فوق الأنهار
بشرتك السوداء…أمام ناظري
صوتك الجميل…صداه في آذاننا
نضالك يعطينا…يعطينا الحماس'
بهذه الأغنية وفي أوائل الثمانينات وبصوت المغني التقدمي (شفان برور) من قصائد (جكر خوين) سمعت لأول مرة باسم (بول روبسون)، وفيما بعد قرأت القصيدة كاملة يصف فيها (جكر) الشخصية العظيمة لروبسون صاحب البشرة السوداء.
اكتسب شهرته حين كان الفصل العنصري «قانونياً» في الولايات المتحدة
فترة الألق
روبسون الرجل الذي حاولت حكومة الولايات المتحدة محوه من التاريخ، منذ عشرينيات القرن العشرين وحتى أوائل الستينيات منه، حيث ظهر فيها كمغني (باريتون)، وعملاقاً موسيقياً على المسرح العالمي، وبطلاً شعبياً ونجماً على المسرح والشاشة، حيث اكتسب شهرته حين كان الفصل العنصري 'قانونياً' في الولايات المتحدة ولم يكن بوسع السود تناول وجبة في مطاعم نيويورك، ناهيك عن المشي بأمان في شوارعها، بل ويعدمون دون ذنب ودون محاكمة.
أغانيه تتحدى التمييز العنصري بين البيض والسود
الصوت العالمي
ولد روبسون عام 1898، ورغم العنصرية اليومية في المجتمع الذي عاش فيه، فقد اشتهر بدفئه الكاريزماتي، فضلاً عن جمال صوته النادر، صوت يمكن للناس أن يشعروا به، ويتردد صداه بداخلهم، فجعله يتجاوز الحدود العرقية ويحظى بالحب والاحترام العالمي.. كما استخدم موسيقاه لجذب انتباه الجمهور إلى الأناشيد الروحانية الزنجية ومن خلالها الثقافة الشعبية التقليدية لشعبه.. أغان يتحدى بها التمييز العنصري بين البيض والسود ليصل صوته إلى كل جهات الأرض، بالإضافة إلى تعزيز قضية الأمريكيين السود، كما استخدم موسيقاه لمشاركة ثقافات البلدان الأخرى والاستفادة من الحركات العمالية والاجتماعية في عصره، أغاني تروج للسلام العالمي وحقوق الإنسان بخمس وعشرين لغة، بما في ذلك الروسية والصينية والعديد من اللغات الأفريقية.
كان روبسون رياضياً مميزاً وممثلاً مسرحياً ومناضلاً ماركسياً
أكثر من مجرد مغني
كان روبسون أيضاً رياضياً مميزاً وممثلاً مسرحياً ويحمل إجازة في القانون من جامعة كولومبيا، ومناضلاً ماركسياً، أرسله والده إلى الاتحاد السوفييتي ليدرس في مدرسة داخلية بعيدة عن التمييز على اساس لون الانسان وشكله، حيث قدم الكثير من عروضه هناك، وقبل أن يعود إلى أمريكا عام 1939 مكث روبسون في لندن لاثني عشر عاماً وارتبط هناك بمثقفين يمشون على خطاه، منهم: جورج برنارد شو، وهربرت جورج ويلز.. كما قدم عروضه في مختلف أنحاء أوروبا، بما في ذلك عرض المسرحية الموسيقية بعنوان 'شو بوت' في لندن لمدة عامين.
بداية العقبات
لكن ومنذ عودته إلى الولايات المتحدة في عام 1939 وحتى أواخر الأربعينيات، أحب الأميركيون روبسون. وكان الاتحاد السوفييتي حليفهم وصديقهم أثناء الحرب العالمية الثانية، وبسبب عروضه الحية الناجحة بشكل مذهل لأغنيته الوطنية (أغنية للأمريكيتين)، اعتبره الجميع باستثناء الجهات الأمريكية أحد أبرز الوطنيين في البلاد، وكانت قاعات الحفلات الموسيقية الكبرى في جميع أنحاء البلاد مليئة بحفلاته الموسيقية، لكن هذا لم يدم طويلاً مع تغيير الرياح السياسة في بداية الحرب الباردة، ولم يكن روبسون على استعداد لتعديل تصريحاته العامة لتناسب المناخ الجديد، فرفض الصمت، وأقام الحفلات الموسيقية الضخمة، وواصل إلقاء الخطب التي تطالب بالعدالة للأشخاص الملونين، بما في ذلك السود الأميركيين والكاريبيين، فضلاً عن الحق في الاستقلال لجميع الشعوب المستعمرة في جميع أنحاء العالم، وفي بداية الأربعينيات اشتدت الرقابة عليه من قبل المخابرات الأمريكية، لا سيما بعد خطاب ألقاه عام 1949 في مؤتمر السلام في باريس، ليتم بعده إلغاء أكثر من ثمانين حفلة موسيقية له وأصبح من المستحيل تقريباً شراء تسجيلاته، وواجه العديد من الاستجوابات المتكررة، ولكنه أصر على نهجه. وبعدها لم يعد بول مدرجاً في قائمة الشرف الخاصة بلاعبي كرة القدم الأميركيين، كما أزيلت مسرحيته 'أوتيلو' من السجلات كأطول مسرحية شكسبيرية تعرض على مسارح (برودواي). كما حاولت الحكومة وداعميها أن يجعلوا بول روبسون صامتاً، ونجحوا إلى حد كبير، حيث أغلقت استوديوهات التسجيل وقاعات الحفلات الموسيقية أمامه، ووقعت واحدة من أكبر أعمال الشغب في تاريخ أمريكا في إحدى حفلاته الموسيقية، التي أقيمت في مكان خارجي صغير نسبياً في ولاية نيويورك. وتعرض رواد الحفلات الموسيقية للهجوم بينما وقفت الشرطة متفرجة.
خارج أمريكا
لكن خارج أمريكا، ظل روبسون نجماً، لا تزال تسجيلاته تباع واستمر في تلقي الدعوات للعزف في جميع أنحاء العالم، ولمنع هذا الأمر؛ سحبت الحكومة الأمريكية جواز سفره لمدة ثماني سنوات. فحوصر داخل بلد لم يكن لديه فيه أي فرص للعمل تقريباً، واستمر غناؤه في قاعات الكنائس وفي التجمعات النقابية، وعلى خط الهاتف عبر الأطلسي الجديد إلى التجمعات العامة في بريطانيا، والتي كانت تضم أحياناً آلاف الأشخاص، لقد غنى وتحدث أينما كان الناس يستمعون، مصمماً على نشر رسالته، وفي عام 1958، بعد ثماني سنوات، أجبرت المحكمة الحكومة على إعادة جواز سفره، ولم يعد بول شاباً، فتوجه إلى لندن وبدأ القيام بجولات مرة أخرى، وفي عام 1960، جاء إلى أستراليا وقدم بعض الحفلات في قاعة المدينة بدار الأوبرا الجديدة في سيدني.
في استراليا
تتحدث الناشطة (فيث باندلر) في تلك التسجيلات الأرشيفية عن الدموع التي انفجرت من روبسون عندما عرض عليه فيلم وثائقي عن الظروف التي كان يعيش فيها السكان الأصليون في جبال (واربرتون)، حيث أجريت فيها التجارب النووية في (مارالينغا)، تقول، إنه غضب ووعد بالعودة لمساعدتهم. وقال إنهم سيذهبون إلى وسط البلاد معاً، ويجبرون الحكومة الأسترالية على الانتباه إلى ظروف شعبها، ولم يعد روبسون إلى أستراليا قط، ومن أوروبا، وفي عام 1961 سافر روبسون مع طاقم تصوير إلى موسكو لحضور حفل موسيقي، وفي إحدى ليالي العام ذاته بموسكو وهو يحضر لتقديم عرض، أقيمت حفلة ضخمة (على حد ما ورد) في جناح فندق (بيج بول)، ووفقاً لابنه بول جونيور، ليس من الواضح من الذي نظم الحفلة، لكنه يقول إنه لم يكن والده أو الحكومة السوفييتية، حيث كان الاتحاد السوفييتي يمر بفترة من القواعد المتراخية في ظل الزعيم الجديد (خرتشوف)، وفي ذلك المساء، لم يكن بول الكبير يشعر بأنه على ما يرام وحبس نفسه في غرفته مكتئباً، وفي الصباح حاول الانتحار بقطع معصميه، عندما وصل ابنه، الذي اتصلت به السلطات السوفييتية، إلى موسكو بعد يومين. غير أن بول الابن يعتقد أن وكالة المخابرات المركزية هي من رتبت تخدير والده، حيث يقول إنه لم يكن هناك دليل على المشاهد التي التقطها طاقم الفيلم الوثائقي الذين كانوا يتبعون روبسون أثناء زيارته لموسكو على أي اكتئاب قبل تلك الليلة، وحينها كانت وكالة المخابرات المركزية تدير مشروعا يسمى MKUltra، مصمماً للتلاعب بالحالات العقلية للناس وتغيير وظائف المخ، حيث تم نقله إلى مصحة سوفييتية للعلاج.
تلقى بول الكبير 54 جرعة من العلاج بالصدمات الكهربائية خلال العامين اللذين قضاهما في الدير
سوء حالته الصحية
وبعد أن استقرت حالته الصحية، عاد مع اسرته إلى لندن، وهناك، انتكست حالته الصحية مرة أخرى، وتم وضعه في مستشفى للأمراض النفسية يسمى 'الدير'. وكان العلاج قاسياً للغاية. حيث تلقى بول الكبير 54 جرعة من العلاج بالصدمات الكهربائية خلال العامين اللذين قضاهما في الدير. ويذكر بول الابن إنه يعتقد أن العلاج الذي تلقاه والده هناك كان جزءاً من مشروع 'إم كيه ألترا'. ويعتقد أن وكالة المخابرات المركزية أرادت تحييد والده، وفي أغسطس 1963، تمكن الأصدقاء أخيراً من نقل روبسون إلى عيادة (بوخ) في برلين الشرقية، بعد أن أزعجهم علاجه في الدير.
نهاية الأسطورة
بعد عودته إلى الولايات المتحدة في وقت لاحق من عام 1963، شارك روبسون لفترة وجيزة في حركة الحقوق المدنية الناشئة ولكن ليس لفترة طويلة، فمنذ عام 1965 بدت صحته سيئة للغاية بحيث لم تسمح له بالنشاط السياسي. وكانت النتيجة أن اسمه وأعماله ظلوا منسيين بالنسبة لمعظم الأمريكيين لعقود قادمة.
توفي روبسون عام 1976، وبعد عامين تم عرض أفلامه على التلفزيون الأمريكي لأول مرة. وأخيراً، ظهرت أغنية 'Ol’ Man River'، التي اشتهر بها، على شاشات السينما الأمريكية في عام 1983. وبعد أكثر من عشرين عاما من وفاته، حصل على جائزة جرامي، ونجمة في ممشى المشاهير في هوليوود. والآن، تحمل المهرجانات والجوائز في جميع أنحاء العالم اسمه، كما تم تكريم عمله لإنهاء نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا بعد وفاته من قبل الجمعية العامة للأمم المتحدة.