اخبار سوريا
موقع كل يوم -درج
نشر بتاريخ: ١٨ شباط ٢٠٢٥
توظّف المخابرات السورية 'مندوبين' مميزين، يقدمون معلوماتٍ قيمة على المستوى الإقليمي والدولي مقابل 'الحماية'و 'توفير مساحة للعمل'. السيد (أ) واحد من هؤلاء الذين نتتبع نشاطهم ضمن سلسلة وثائق أمنية من شعبة الأمن السياسي في دمشق!
حصلنا في 'درج' على مجموعة من الوثائق التي تكشف نشاط المدعو السيد (أ)، الذي يعمل 'مندوب' للمخابرات العامة في سوريا، ضمن دوائر المجتمع المدني المحلي والدولي في سوريا، وتبوأ مقعداً في مفاوضات جنيف ممثلاً عن 'المعارضة'. حكاية السيد (أ) وما تحويه من وثائق و'تقارير أمنية'، تتركنا أمام أسئلة عدة تتعلق بالعدالة الانتقالية وأسلوب محاسبة الفاعلين في نظام الأسد، والأهم، حق هذه الشخصيات في العودة الى العمل السياسي والمدني من دون محاسبة عن تاريخها الذي تسبب لا فقط بعرقلة الجهود الدولية تجاه سوريا بل أيضاً وصل حدّ توظيف التقارير لتصفية حسابات شخصية أودت بالبعض إلى سجون الأسد.
قصة السيد (أ) الذي اخترنا في 'درج' إخفاء اسمه تطرح تساؤلات حول العدالة الانتقالية في سوريا وأسلوب المحاسبة الذي ما زال غامضاً، ويتحرك بين التصفيات الانتقاميّة والاعتقالات الرسميّة التي ترافقها لقاءات على وسائل الإعلام، المصلحة بوصلة اعتمدناها في بناء القصة، خصوصاً أمام غياب أشكال الاتهام القانونية لكاتب التقارير، ومدى مسؤوليته المباشرة عن اعتقال أحدهم ضمن هرمية العقاب في نظام الأسد.
شكَّل المُخبرون جزءاً ثابتاً من الحيّز العام السوري على مدار خمسة عقود حكم فيها الأسدان بقبضة من حديد، عبر قائمة لا نهائيّة من أفرع الأمن وشعب المخابرات، تلك التي خلقت وظيفة 'كاتب التقارير'، وظيفة تمنح صاحبها نوعاً من الحصانة، وتفتح له أبواباً قد لا تكون متاحة له من قبل، وأحياناً تكون هذه الوظيفة جهداً شخصياً، أي أن يتبرع أحدهم من نفسه ليشغل هذه الوظيفة، ويتدرج مترقياً في سلّم المخبرين لدى أجهزة الأمن.
هذه الوظيفة تكشف أحياناً عن سبب وجود البعض في وظائف ومناصب قد لا يمتلكون مؤهلاتها، وحين السؤال عن السبب، يجيب المحيطون بهذا الموظف النشيط والفضولي بعبارة واحدة 'هذا زلمة مخابرات'.
ملفات عدة حوَت مئات الوثائق التي اطَّلع عليها 'درج' في إدارة المخابرات العامة بدمشق، اعتُبرت بمثابة عقود تعاون مع المُخبرين، الذين أُطلق عليهم في الوثائق الأمنية لقب 'المندوبين' أو 'المصادر'، وهي أوراقٌ تضمنت الاسم الكامل للمُخبر واسماً مستعاراً ورقم الهوية ورقم الهاتف والمهنة، مع ديباجةٍ تشبه تلك التي في عقود العمل، بما فيها من خدمات وتعهدات من الطرفين وعبارة 'مستعد للتعاون'، يذيّل بتوقيع صاحب العلاقة/ المخبر.
مُعظم أولئك المتعاونين يعملون في مهنٍ تقوم في سوريا على نظام المُياومة وتخلو من كل ما يمت الى الرواتب الثابتة أو الضمانات الاجتماعية بصِلة؛ كسائقي التاكسي وأصحاب الأكشاك والباعة المتجوّلين، وبالطبع بائعي البالونات في مواسم الأعياد، وهذا ما يفسر المبالغ الضئيلة التي كانوا يتلقونها لقاء تقديم المعلومات.
بحسب مجموعة وثائق أخرى اطّلع عليها 'درج' في مبنى المخابرات الجوية بدمشق، تبيَّن أن الفرع سيئ السمعة خلق ما يشبه حالة 'اقتصاد العمل الحر' أو 'الفريلانسينغ'؛ إذ كان 'المندوبون' يتلقون رواتبهم كمبلغٍ مقطوع لقاء المعلومة الواحدة، ولم يكن يتجاوز الخمسة آلاف ليرة (نحو 7-8 دولارات عند طباعة الوثائق) للمعلومة الواحدة.
السيد (أ): مندوب مخابراتي دوليّ!
بعيداً عن المندوبين المياومين، توظّف المخابرات السورية ما يمكن وصفه بـ'المندوبين' المميزين الذين لا ينتمون إلى الفئات السابقة، والذين يقدمون بطبيعة الحال معلوماتٍ أكثر وأعلى قيمة من مجرد تحركات مشبوهة أو التفوه باسم 'السيّد الرئيس' عبر الهاتف، والمقابل يكون نوعاً من 'الحماية' أو 'توفير مساحة العمل' لا على شكل مصروفات مالية. وهذه حكايةٌ تحكيها سلسلة وثائق أمنية صدرت عبر السنوات عن شعبة الأمن السياسي في دمشق، واطلع عليها 'درج' بشكلٍ مباشر تخصّ المدعو السيد (أ).
تروي الوثائق حكاية مدير منظمة مجتمع مدني سورية وأحد وجوه 'معارضة' الداخل 'الوطنية' – بحسب سردية الأسد الفارّ وإعلام نظامه –السيد (أ) واظب لسنواتٍ عدة على حضور المؤتمرات الدولية المتعلقة بالشأن السوري، واجتمع مع ممثلي الأمم المتحدة والدبلوماسيين الأوروبيين، وتبوأ مقعداً ثابتاً في مفاوضات جنيف وملحقاتها بهدف 'إظهار دور المجتمع المدني بشكل فاعل وتقديم أوراق أعمالٍ لتوصيف المرحلة الدستورية والانتخابية المقبلة، وضرورة ملء الفراغ السياسي' حسب ما كان يُصرَّح لوسائل الإعلام.
تزامن نشاطه السابق مع التواصل الدوري والدؤوب مع الأجهزة الأمنية السورية، لتقديم معلومات تتعلق بنشاطات أو أفراد المنظمات المدنية الأخرى إقليمياً ودولياً؛ ما يشمل طبيعة المشاريع، تفاصيل العاملين، أو حتى بيانات حساسة قد تُستغل لإعاقة العمل المدني لتلك المنظمات، إضافة إلى التقييم والرأي الشخصيين بتلك النشاطات من 'المعارض الوطني' في بعض المحاضر.
نقرأ في وثيقة صادرة عام 2018 عن شعبة الأمن السياسي، عن الدور الذي لعبه 'ممثل المجتمع المدني' إيّاه بدفع عجلة التطبيع الأوروبي مع الأسد بصفته 'مرساة الاستقرار'، والذي وصل ذروته قبل سقوط النظام بأشهر قليلة من خلال وثيقة 'لا ورقة' قدمها سبع وزراء خارجية أوروبيين لمنسق السياسات الخارجية في الاتحاد الأوروبي جوزيب بوريل، إضافة إلى مغازلته الأفرع الأمنية السورية.
تحدَّث السيد (أ) في ورشة عمل في عاصمة أوروبية عن 'ضرورة التفكير بواقعية أكثر من الدول المؤثرة بالمنطقة، وبخاصة الأوروبيين، وعدم الوقوف على الحياد والتواصل مع الحكومة السورية وفتح السفارات […] وإلا ستتحمَّل التبعات السلبية كنشر الإرهاب وزيادة عدد اللاجئين'.
يوثّق التقرير الأمني دفاعه عن الأجهزة الأمنية على الأراضي الأوروبية ومحاولات تمييع انتهاكاتها من منطلق 'الجميع ارتكبوا جرائم'، إذ يقول في معرض ردّه على حديث أحد المشاركين بالورشة، بحسب الوثيقة الأمنية، القائل بضرورة إعادة هيكلة الأجهزة الأمنية ومحاسبة مرتكبي جرائم الحرب، إنه 'يجب العمل أولاً على الاستقرار في سوريا ثم المحاسبة بشكل قانوني وليس بشكل حقدي، فإما أن يحاسب جميع الأطراف أو يسامح الجميع'.