اخبار سوريا
موقع كل يوم -تلفزيون سوريا
نشر بتاريخ: ١١ كانون الثاني ٢٠٢٥
إذا كان كتاب (الديوان، 1921، عباس محمود العقاد وإبراهيم المازني) قد شكَّل انطلاقة النقد الأدبي العربي الحديث، فإن نص (الموسيقا، جبران خليل جبران) يفتتح العلاقة بين الشعر والموسيقا في الكتابة الأدبية الحديثة. يتناول هذا النص مفهوم الموسيقا ضمن رؤية جبران خليل جبران المندرجة تحت إطار المدرسة الأدبية الرومانطيقية. فطغى على تجسيد الأديب لمفهوم الموسيقا في قصيدته حضورها كلغةٍ تعبيرية:
'الموسيقا لغة النفوس، والألحان نسيمة تهزُّ أوتار العواطف، هي أنامل رقيقة تطرق باب المشاعر وتنبه الذاكرة فتنشر ما طوته الليالي من حوادث أثَّرت فيها بماضٍ عبر'.
ويحرص النص على أن يقدم الموسيقا بإمكانياتها التعبيرية عن الحزن والفرح:
'هي مجموع أصواتٍ محزنةٍ تسمعها فتستوقفك وتملأ أضلعك لوعة. وهي تأليفُ أنغامٍ مفرحة، تعيها فتأخذ بمجامع قلبك فيرقص بين أضلعك فرحاً وتيها'.
ويربط النص بين الموسيقا وفنون تعبيرية أخرى مثل الشعر والتصوير:
'والموسيقا كالشعر والتصوير، تمثل حالات الإنسان المختلفة، وترسم أشباح أطوار القلب وتوضِّح أخيلة ميول النفس، وتصوغ ما يجول في الخاطر وتصف أجمل مشتهيات الجسد'.
الموسيقا كصمت مهيب للحدث التاريخي الجلل
يمكن البحث عن نقيض الرؤية الرومانطيقية التي قدمها جبران خليل جبران في نصوصه عن الموسيقا، في قصائد الشاعرة (إيتيل عدنان) التي تسلب من الموسيقا ألحانها ونغماتها وإيقاعاتها، لتصيرها صمتاً تعبيريّاً يرافق الحدث التاريخي الجلل الذي تتناوله القصيدة، كما هو الحال في قصيدة (سفر الرؤيا العربي):
'الليل خالٍ من أي حادث. حربٌ في السماء الشاغرة. غياب الفانتوم
جنازات. تابوت لا تغطيه ورود، شعبٌ بلا بندقية. ليلٌ مديد
طواف طويل للشمس الصفراء من المسجد إلى الساحة الخالية. سيارات تاكسي خرساء. جيش بلباس مدني. عربة موتى صامتة. موسيقا مكبوتة. لا فلسطينيون بلا فلسطين'.
وكذلك في قصيدتها (بيروت 82)، فإن الأغاني تصمت في مواكب الألم الممتدة عبر الأجيال:
'آهٍ لوحشةِ القلبِ الرقيقة، يومَ ماتت بيروت، تحتَ وابلٍ من الأزهار الحمراء. قبلَ ذلك، غادرتنا أمُّ كلثوم، كانت تغني للملائكة والأحصنة، ثم لحق فلسطينيون، صامتون، بالموكب، كما في جداريات أسلافهم'.
في عالم إيتيل عدنان الصوتي، لا يصدر عازفُ ناي القبيلة إلا اللحنَ الجنائزي:
'فنادَينا، عازفَ الناي في القبيلة، وسألناه، عن سِحر أمواج المتوسّط، فأجابنا بلحنٍ جنائزيّ. ما أكثرَ الجنازات التي مشيناها. وما أكثرَ عددَ السنين'.
الذائقة الموسيقية في الأنظمة الشمولية
تنقلنا قصيدة (عزف منفرد على الطبلة، نزار قباني) إلى مفهومٍ جديدٍ للموسيقا، وهو يتناول تلك الموسيقا التي تفرضها الدولة، كنايةً عن كل المنظومة القيمية التي تفرضها الدول العربية على الشعوب. فالموسيقا الوحيدة هنا هي الموسيقا المفروضة من قبل الدولة، المعزوفة من قبل الدولة، طرب الدولة كما يطلق عليها الشاعر:
'الحاكم يضرب بالطبلة، وجميع وزارات الإعلام تدق على ذات الطبلة، وجميع وكالات الأنباء تضخِّم إيقاع الطبلة، والصحف الكبرى والصغرى، تعمل أيضاً راقصةً، في ملهى تملكه الدولة. لا يوجد صوتٌ في الموسيقا، أردأ من صوت الدولة'.
وتصبح موسيقا الطبلة توريةً لتناول الواقع السياسي والاجتماعي والثقافي في الوطن العربي، ويصبح الفرح والحزن اللذان وصفهما جبران خليل جبران في نصه، مشاعرَ مفروضةً بالإكراه في الأنظمة السياسية العربية:
'وطنٌ ما زال يذيع نشيد النصر على الأموات،
طبلة طبلة،
وطنٌ عربي تجمعه من يوم ولادته طبلة،
وتفرِّق بين قبائله طبلة،
وأهل الذكر، وقاضي البلدة،
يرتعشون على وقع الطبلة،
الطرب الرسمي يجيء كساعات الغفلة.
الطرب الرسمي يعاد كأغنية الشيطان
وعلينا أن نهتز إذا غنّى السلطان
فرحٌ مفروضٌ بالإكراه
موتٌ مفروضٌ بالإكراه'.
الموسيقا من الوتر الفردي إلى الحدث التاريخي
يُعتبر ديوان (أحد عشر كوكباً) من أكثر دواوين الشاعر (محمود درويش) تضمُّناً لمفهوم الموسيقا في قصائده وموضوعاته وأساليبه الأدبية. وهي تتدرَّج في حضورها الشعري لتعبر عن فرادة الذات، وكذلك لتعبر عن التجربة الجمعية. فتحضر الموسيقا في قصيدة (كن لجيتاري وتراً أيها الماء) مرآةً لانعكاس الذات:
'كُنْ لِجيتارَتي وَتَراً أَيُّها الْماءُ، قَدْ وَصَلَ الْفاتِحُون، وَمَضى الْفاتِحُون الْقُدَامَى. مِنَ الصَّعْبِ أَنْ أَتَذَكَّرَ وَجْهِي في الْمَرَايَا. فَكُنْ أَنْتَ ذَاكِرَتِي كَيْ أَرَى ما فَقَدْت'.
بالمقابل، فإن الموسيقا في قصيدة (الكمنجات) ترافق الأحداث التاريخية التي تنعي وطناً ضائعاً:
الكَمَنجاتُ تَبْكي مَعَ الغَجَرِ الذَّاهِبِينَ إلى الأندَلُسْ
الكَمَنجاتُ تَبْكي على العَرَبِ الخَارِجِينَ مِنَ الأندَلُسْ
الكَمَنجاتُ تَبْكي على زَمَنٍ ضائعٍ لا يَعودْ
الكَمَنجاتُ تَبْكي على وَطَنٍ ضائعٍ قَدْ يَعودْ
الكَمَنجاتُ تُحْرقُ غَابَاتِ ذَاكَ الظَّلَامِ الْبعيدِ الْبعيدْ
الكَمَنجاتُ تَدْمي الْمُدى، وَتَشُمُّ دَمِي في الْوَريدْ
الكَمَنجاتُ تَتْبَعُنِي هُهنا وهناكَ لتثأرَ مني
الكَمَنجاتُ تَبْحَثُ عنِّي لتقتلنِي، أَيْنما وجدتْني'.
وإن كانت الموسيقا في ديوان (أحد عشر كوكباً) تنوس بين مرآة الذات ومرآة الأحداث التاريخية، فإن قصيدة (يختارني الإيقاع) من ديوان (لا تعتذر عما فعلت) تجعل من الموسيقا تجسيداً مباشِراً لاحتمالات الذات:
'يَخْتَارُني الإيقاعُ، يَشْرَقُ بي
أنا رَجْعُ الكمان، ولستُ عازِفَهُ
أنا في حضرة الذكرى
صَدَى الأشياء تنطقُ بي
فأنطقُ...'.
يمكن تصنيف الشاعر (أدونيس) ضمن أكثر الشعراء كثافةً في التعامل مع مفهومي الموسيقا والغناء؛ إذ يتضمَّن ديوانه الأول (قصائد أولى) قصيدةً طويلة بعنوان (أغنيات الحب)، وفي ديوانه التالي (أوراق في الريح) تطالعنا قصيدة (مزامير الإله الضائع) — والمزمور أحد أنواع الغناء المرافق للموسيقا الدينية — ويحمل ديوانه الأشهر عنوان (أغاني مهيار الدمشقي)، وفي كتابه (المسرح والمرايا) يُضمِّن (أربع أغنيات للقصب، وأربع أغنيات لتيمور)، وفي ديوان (هذا هو اسمي) نطالع قصيدة (أغنية إلى حروف الهجاء). لكن أكثر قصائد أدونيس ارتباطاً بالموسيقا هي (كونشرتو القدس). هذه القصيدة/ الديوان تتجاور في موضوعاتها مدينةُ القدس، لكن أيضاً المعنى والوجود والدين والإنسان. فيردد الوتر أسئلة الوجود والموت:
'وتر
في زاويةٍ،
في أقصى أحشائي،
غزالةٌ تبكي
لهذا، كثيراً، رجوتُ الملحَ أن ينتقدَ الخبزَ. غير أنه لم يستجبْ
وسمعتُ من يسألني، خِفيةً:
لماذا يتأخر الموت، عندنا،
ويظلُّ تقدُّم الحياة موتاً آخر؟'.
فالمعنى في القصيدة موجزٌ سماويٌّ، الحكيمُ الجبَّار:
'القدس حلمُ لغة. لغةٌ يمتزج فيها التاريخ بما قبله، وما بعده. يمتزج بالإنسان والواقع، نهاية ولا نهاية. إنها التراب والماء، ولك أن تجبل ما تشاء.
وها أنتِ أورشليم القدس،
تتزلجين على ثلج المعنى
وللمساء فيكِ جنٌّ وعفاريت
يهيمون على محيطات اللغة'.
تتألف (كونشرتو القدس) من مقاطعَ شعريةٍ تحمل بعضها عناوينَ منسوبةً إلى عالم الموسيقا والأغنية، أبرزها (نشيد افتتان للاشيء):
'لا أؤمن بعقل الجموع
أؤمن بالضوء – يشعُّ، ويخترق، ويشير
يا شجرة الحكمة،
كيف أتآخى مع غابة القدس؟
وما هذا الواحد الذي لا يحضر إلا في جنازة، أو على عرش؟'
ومقابله (نشيد افتتان لكل شيء) حيث تحضر القدس في وصفها مكاناً فيزيائيّاً:
'حقّاً، للفضاء في القدس شكل القفص: الكون كله ألفُ واحدٍ من الأمتار المربعة'.
وتقارب القصيدة اكتمالها بينما يدعو الشاعرُ المغني للغناء عن العشق، وهو يماهي في عباراته بين الحنجرة والأغنية والعشيقة:
'غنِّ أيها العاشق، هل حنجرتك هي عشيقتك؟ هل عشيقتك هي حنجرتك؟ لا تُجِب. غنِّ. النبوءات تفرُّ غيرةً من عينيك، وإليك تنتمي فتنة الدهر'.
الموسيقا في قصائد العشق والخوف والذات
يتعدد حضورُ مفهوم الموسيقا في قصائد الشاعر (قاسم حداد). ففي قصيدة (الوطن موسيقا) تحتل الموسيقا عالمَ الانتظار، تتمدد على الموجودات وتشكل الفضاء المرئي واللامرئي في حالة انتظار العاشق لمحبوبته:
'في الموسيقا التي تتجول في غرف بيتنا الصغير
والتي تتسلق الجدران والنوافذ ورفوف الكتب
الموسيقا التي تتناول معنا العشاء والحب
وتقرأ الشعر
في الموسيقا المنسربة تحت لحافنا
والسابحة في حليب أطفالنا
والتي ننام ونصحو
وهي ساهرة تحرس أيامنا
في هذه الموسيقا انتظريني
في هذه الموسيقا أنتظرك'.
يأخذ الشاعرُ حداد في قصيدة (صديقة التشيللو) مفهوم الموسيقا إلى عوالمٍ من الخوف والوحشة، فتبدأ القصيدة بوصفٍ تتداخل فيه الموصوفة مع الآلة الموسيقية التشيللو، ويتفرع عن الوصف رسمٌ لعالمٍ تكتنزه الوحشة:
'طفلةٌ في الموسيقا، أوتارُها أدنى من الصوت، وأقصى رهافةً من الصمت، تصغي مأخوذةً ... مثلَ اكتشاف الحياة، فالخوفُ موسيقا أيضاً
طفلةٌ تسهر في حضن طفولتِها، مشغولةً عن كمانِها، تروي حكاياتها عن شمسٍ في الحبس، وتضعُ الحبَّ في مكانه'.
على العكس من قصيدة (الكمنجات، محمود درويش)، حيث الأمكنة التاريخية بين الأندلس والأوطان الضائعة، فإن (الكمنجات، قاسم حداد) ترتبط بمكانٍ مغلق هو الحانة أو مكان الأداء الموسيقي، حيث يخاطب الشاعرُ الآلة الموسيقية طالباً منها أن تعبِّر عن الغربة والأسى:
'قُلْ للكمنجات شيئاً، لعل الكلامَ يُخبِّرُها أننا غرباء، وأنَّ الموسيقا تؤجلنا، وفينا من الرقص ما يستميلُ المدينةَ كاملةً. نجهلُ كل اللغات التي ترطُنُ الآن، هاتِ الكمنجاتِ .. أقربَ .. أقربَ، كي يجهشَ القلبُ في حضنها'.
آلةٌ موسيقيةٌ أخرى يحاول الشاعرُ (سعدي يوسف) أن يصفها باللغة الشعرية في قصيدةٍ بعنوان (الماندولين). تسعى اللغةُ المترددة، المتسائلة، المتشككة في هذه القصيدة إلى البحث عن إمكانيات اللغة في وصف الماندولين، فتحارُ في الاختيار بين الوصف الفيزيائي للآلة الموسيقية، وبين وصف الأثر التعبيري الذي تبلغه:
'يمكن الكلام عن الماندولين، إلا بلغة الماندولين. أعني أن اللغةَ المعروفة (أي التي نعرفُها)، ليست أداةً للكلام عن الماندولين. والسبب بسيطٌ جداً. السبب أن ألـ ـ مـا ـنْــ ـدو ـ لِــيْـ ـنْ هي موسيقا. خشبٌ يُنبت موسيقا. لا تَقُلْ لي رأساً إنني مرتبكٌ أو مُتلبِّكٌ ؟ No, no, please! أنا بكامل هدوئي'.
وتتحول القصيدة من سؤال كيفية التعبير شعريّاً عن آلةٍ موسيقيةٍ — هي الماندولين — إلى السؤال عن كنه الشعر:
'غريبٌ أمرُكَ معي! أقولُ لكَ إن قصَّتي مع الماندولين حَقٌّ. بمعنى أنها ليست كما تفهمُ أنتَ الشِّعرَ. أي إنني أتحدَّثُ عن ماندولين حقيقيَّة، من لوحٍ ودمٍ. ماندولين نائمةٌ بارتخاءٍ في صندوقٍ مُبطَّنٍ بمخملٍ أزرق'.
وتنتقل القصيدة في فقراتها التالية إلى عالم الذكرى، فتتداخل اللحظة الشعرية مع ماضي الشاعر وهو يتعلم العزف على آلة الماندولين:
'دائماً. يفتح الصندوقَ، ويُخرج الماندولين من نعاسها في المخمل الأزرق. ويقول لي: نبدأ؟ يعلِّمني كيف أُمسِكُ بمثلَّث البلاستيك الدقيق الذي يصل بيني وبين أوتار الماندولين، مثلما يصل الراهب بين المرءِ والله'.
وننهي التنويعات الشعرية التي تناولت مفهوم الموسيقا بقصيدةٍ تقارب النشوة في علاقتها بالتجسيد الموسيقي، بعنوان (رقصة الفراشة السوداء، ممدوح عدوان)، حيث يحضر فيها الرقص الراوي للقصص، الرقصُ البالغ حدود النشوة، والرقص بكل احتمالاته التعبيرية:
'أقفز، أطرافي تتخلع، كلُّ تفاصيل الجسد تطالب أن ترقص رقصتها، أن تحكي قصتها، أو ترجف رجفتها، أو تخلع عنها خِفَّتها، أو تخلع عنها عفَّتها، على الإيقاع وغيِّر في الإيقاع، وأخطئ في الإيقاع، أو أسكت هذا الإيقاع، فإني أرقص حسب ترانيم القلب، وليس لحرقة قلبي من نغمٍ موزون، إن أرقص حسب تراويح الجسد بغير فنون'.