اخبار فلسطين
موقع كل يوم -فلسطين أون لاين
نشر بتاريخ: ٢ تشرين الثاني ٢٠٢٥
في كلّ عصرٍ تمرّ به البشرية، تتبدّل المقاييس وتُعاد صياغة المفاهيم على مقاس الأهواء والرغبات. ومع تقدّم الزمن وتطوّر وسائل الاتصال، أصبح رأي الناس هو الحاكم الأعلى في نظر الكثيرين، حتى صاروا يزنون الحقّ والباطل بميزان 'القبول الاجتماعي' لا بميزان الوحي والضمير. صار يُقال اليوم في وجوه الناصحين: 'إنّ الناس قد قبلوا هذا، والجمهور راضٍ، والذوق العام تغيّر!' وكأنّ الحقيقة تُستمدّ من التصفيق، لا من الوحي. هذه النظرة المقلوبة التي تجعل المجتمع مصدرًا للتشريع الأخلاقي والقيمي، تمثّل خطرًا عظيمًا على وعي الأمة وهويّتها، لأنّها تُحوّل الإنسان من عبدٍ لله إلى عبدٍ للجمهور.
الحقّ لا يُستمدّ من الكثرة
القرآن الكريم وضع قاعدةً لا لبس فيها: وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ [الأنعام: 116].
الكثرة ليست دليلًا على الهداية، ولا الإجماع البشري دليلًا على الصواب. فقد أجمع أقوامٌ كثيرون من قبل على الباطل، واعتبروه ثقافةً وهويةً، ومع ذلك لم يكن ذلك ليغيّر من حقيقة بطلانهم شيئًا. إنّ معيار الحقّ في الإسلام هو الوحي، لا هوى الجمهور، وهو الشرع، لا 'الذوق العام'. فالله تعالى وحده هو الذي يعلم مصالح عباده، وهو الذي يضع الحدود الفاصلة بين الحرية والانفلات، وبين الفنّ والابتذال، وبين الصدق والزيف.
نموذجٌ من التاريخ: قوم لوط
من أبلغ الأمثلة التاريخية على هذا الانحراف في الموازين، قصة قوم لوط عليهم السلام. فقد بلغ بهم الانحراف أن جعلوا من الفاحشة فخرًا وسلوكًا عامًا، بل صار المنكر عندهم معروفًا، والمعروف منكرًا، حتى قالوا لنبيّهم متحدّين: أَخْرِجُوهُم مِّن قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ [الأعراف: 82].
لاحظ هذا التعبير القرآني العجيب؛ إنهم لم يهاجموا لوطًا وأتباعه لأنهم مفسدون، بل لأنهم يتطهّرون! أي لأنّهم خالفوا المعيار الاجتماعي الفاسد. لقد قلب القوم الموازين حتى أصبح الطهر تهمة، والفساد فضيلة، والإثم حرّية، والمقاومة تخلّفًا. وهذا هو عين ما نراه اليوم في مجتمعاتٍ ترفع شعارات 'التحرّر' و'الجرأة'، وتُبرّر الانحراف الأخلاقي بحجّة أنّ 'الناس يحبّونه'، أو أنّ 'المجتمع تغيّر'. لكن التغيّر لا يبدّل حقيقة الخير والشر، كما أنّ تغيّر الأذواق لا يبدّل طبيعة السمّ والدواء.
المجتمع ليس معصومً
المجتمع – مهما بلغ من تقدّمٍ ماديٍّ أو مدنيٍّ – ليس معصومًا من الخطأ والانحراف. بل إنّ أكثر الانحرافات التاريخية الكبرى بدأت من تطبيع الباطل اجتماعيًّا. حين يتعايش الناس مع الخطأ، ويتكرّر أمامهم حتى يُصبح مألوفًا، ثمّ يُدافع عنه الإعلام والفنّ والسلطة، ينشأ جيلٌ لا يرى فيه خطأ أصلًا. وهكذا يتحوّل المنكر إلى 'ثقافة'، والفجور إلى 'فنّ'، والتفاهة إلى 'تسلية'، ثم يُقال: 'الجمهور هو من يريد ذلك!' لكن الإسلام لا يعترف بهذا المعيار المتهافت؛ فلو اجتمع الناس كلّهم على باطل، لبقي باطلًا، ولو اجتمعوا على رفض الحقّ، لبقي حقًّا.
قال تعالى: قُلْ لَا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ [المائدة: 100].
بين الوحي والجمهور
إنّ العلاقة بين الوحي والجمهور هي علاقة توجيهٍ لا تبعيّة. فالوحي هو الذي يصحّح ذوق الناس لا العكس. ومن أعظم ما يُميّز المجتمع المسلم أنّه مجتمع محكوم بالوحي لا بالعرف وحده، وبالحقّ لا بالرغبة. فقد يكون 'الناس' في غفلة، ويكون المؤمن وحده على بيّنةٍ من ربّه، كما قال تعالى: إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً [النحل: 120].
كان إبراهيم عليه السلام أمّة وحده، لأنه ثبت على الحقّ حين مالت الكثرة إلى الباطل. وهكذا يُصنع التاريخ دائمًا: بالثابتين على المبدأ، لا بالمنجرفين مع التيار.
حين يزول الحياء، يزول الضابط
حين يُبرَّر الانحراف باسم 'الحرية'، ويُدافع عن الفساد باسم 'الفنّ'، فإنّ الحياء يُقتل في النفوس، والضمير يُخدّر، ويُصبح المجتمع بلا بوصلة. ولا نكاد نفرّق بين 'الجرأة على الباطل' و'الشجاعة'، ولا بين 'المساس بالمقدّسات' و'حرية التعبير'. لكن الإسلام وضع لنا مبدأً جامعًا: إِنَّمَا بُعِثْتُ لِأُتَمِّمَ مَكَارِمَ الأَخْلَاقِ — حديث شريف
فكلّ ما يهدم الأخلاق، ويجرّد الإنسان من حيائه وإنسانيته، لا يمكن أن يكون من الحرية، ولا من الفنّ، ولا من التقدّم، مهما صفّق له الناس، ومهما حاز من نسب المشاهدة.
خاتمة
إنّ أخطر ما يُبتلى به مجتمعٌ أن يجعل نفسه مرجعًا لنفسه، بلا وحيٍ ولا ضابط. فحين يُصبح 'رأي الجمهور' هو المصدر الأعلى للحكم، يتحوّل الإنسان من مخلوقٍ عابدٍ لله إلى تابعٍ لشهوته، ومن أمّةٍ لها رسالة إلى سوقٍ تحكمه الأذواق والرغبات. إنّ الحقّ لا يُصوَّت عليه، ولا تُستفتى فيه الجماهير. الحقّ يُتَّبع لأنه من عند الله، لا لأنه شائع. والباطل يُرفض لأنه باطل، لا لأنه مكروه اجتماعيًّا. فيا من يجعل الناس ميزانًا للحقّ، تذكّر قول الله تعالى: فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ [يونس: 32].

























































