اخبار فلسطين
موقع كل يوم -وكالة شهاب للأنباء
نشر بتاريخ: ٢٥ حزيران ٢٠٢٥
تقرير - شهاب
مستلقيًا بصمتٍ موجع، بجسده النحيل الممدّد على ألواح خشبية، كأنما كان ينتظر أن يمتد إليه رغيف خبز لا قذيفة، لا بطانية تغطيه، ولا ملامح تدلّ على أنه كان حيًا قبل لحظات، سوى يدٍ مرتخية تنزف وتتشبث بالحياة كما لو كانت تمسك بلقمة حلم لم تكتمل أو بعضًا من الطحين ليسد رمق عائلته الجائعة.
كما عيناه مغمضتان، لكن صدى الجوع يملأ ملامحه أكثر من رائحة الدم، لم يمت وحده؛ فقد سبقته أحشاءه الخاوية، وهزيمته مع الحياة، وخذلان العالم بأسره.
وحوله، وجوه مذهولة، أكتاف مرتجفة، وأرجل تمشي فوق الطين والحطام، تبحث عن أمل أو بقايا إنسان، ولا أحد يبكي؛ الدموع جفّت منذ زمن، فقط صمت ثقيل، وسماء رمادية تقف شاهدة على موت جديد، لكن هذه المرة، الشهيد لم يكن مقاتلًا، بل جائعًا قُصف وهو ينتظر الخبز.
ربما لم يكن يعرف أن الجوع في زمن القصف جريمة مزدوجة، وأن الانتظار قرب نقطة المساعدات قد يكلّفه حياته، لكن من يجادل الجوع حين يُصبح أقوى من الخوف؟
الصورة، التي وثقتها عدسات الصحفيين في أحد أيام الحصار الطويلة، لم تحتج إلى شرح، كانت صرخة صامتة من وسط الركام، تقول للعالم إن الموت في غزة لا يأتي فقط من السماء، بل من البطون الخاوية، ومن الانتظار المرّ للمساعدات التي كثيرًا ما تُحاصر، أو تُستهدف قبل أن تصل.
كما أن هذه الصورة ليست مجرد مشهد من حرب، إنها اختصار لإنسانية تذوب على مهل، في عيون شابٍ كان يحلم بأن يأكل لا أن يُحمل.
أصبحت هذه الصورة رمزًا للمجاعة المركّبة التي تعصف بقطاع غزة منذ شهور، لا طعام، لا ماء، لا كهرباء، ولا طرق آمنة لإيصال المساعدات، وفي كل مرة يُعلن فيها عن دخول شحنة إغاثة، يتجمع الآلاف على أمل الحصول على شيء من الأمل، لكن كثيرًا ما يتحول هذا الأمل إلى فاجعة.
كما وثّقت منظمات حقوقية شهادات مروّعة حول أطفال ماتوا من الجوع، ونساء طحنّ الحشائش لإعداد خبز بدائي، وشبان يتقاسمون فتات المساعدات، لكن حين تُقصف حتى صفوف الانتظار، تصبح الصورة أبلغ من كل الأرقام.
ورغم أن الصورة حظيت بتداول واسع وغطت صفحات وسائل الإعلام ووسائل التواصل، إلا أن الاستجابة الدولية لا تزال محدودة، إن لم تكن معدومة، حيث لم يصدر عن أي جهة رسمية موقف يحمّل الاحتلال مسؤولية استهداف المدنيين الجوعى، ولا تحركت آليات حقيقية لفرض حماية إنسانية لمناطق توزيع الغذاء.
والشهيد المجهول الذي استُشهد جائعًا سيُدفن كما عاش، بلا اسم، بلا كفن، وربما بلا قبر يُزار، لكنه سيبقى شاهدًا على مرحلة تاريخية سوداء، وعلى صمت عالمي مخزٍ تجاه مجاعة تُصنع بالقصف، لا بالجفاف.
ووفق متابعون، فإن الدماء التي ملأت العربة التي نُقل عليها لم تكن فقط دماء جرح، بل دماء خذلان، والصورة لم توثّق لحظة استشهاد فحسب، بل لحظة عجز جماعي؛ عندما يُقتل الجائع قبل أن يأكل، وتُستهدف لقمة العيش بالصواريخ.
'مأساة إنسانية'
مدير شبكة المنظمات الأهلية الفلسطينية، أمجد الشوا، وصف ما يحدث من استهداف الاحتلال 'الإسرائيلي' للمواطنين المنتظرين للمساعدات بشكل يومي بأنه 'مأساة إنسانية بكل معنى الكلمة'، مؤكدًا أنها تعكس حجم الكارثة المعقدة التي يعيشها قطاع غزة في ظل الحصار والتجويع المتعمد الذي يمارسه الاحتلال.
وقال الشوا في تصريح خاص لوكالة 'شهاب' للأنباء، إن 'الاحتلال يمنع دخول المساعدات بكافة أشكالها إلى القطاع، بما في ذلك المواد الغذائية الأساسية، وعلى رأسها الدقيق، ولا يزال يماطل في السماح بدخول كميات كافية، إذ يقتصر على كميات قليلة لا تُذكر'.
وأضاف: 'الاحتلال يمنع كذلك تنظيم عملية توزيع المساعدات بشكل آمن ومن خلال مراكز معتمدة تحفظ كرامة المواطنين وتراعي المبادئ الإنسانية'.
أما الحقوقي الفلسطيني ظافر صعايدة طالب المجتمع الدولي بالتحرك العاجل لفتح تحقيق مستقل في استهداف الاحتلال 'الإسرائيلي' للمدنيين خلال انتظارهم تسلُّم المساعدات الإنسانية في قطاع غزة، مؤكدًا أن 'لا معنى للقانون الدولي إذا لم تتم محاسبة الاحتلال على قتل الجوعى'.
وقال صعايدة، في تصريح خاص لوكالة 'شهاب' للأنباء، إن المجازر التي ارتكبها الاحتلال مؤخرًا بحق المدنيين الباحثين عن الغذاء، أسفرت عن أكثر من 300 شهيد وآلاف المصابين والمفقودين، مؤكدًا أن هذه الانتهاكات ترتكب في وضح النهار، ووسط حصار خانق مستمر منذ 7 أكتوبر 2023 وحتى اليوم.
وأشار إلى أن هذه الأفعال تمثل انتهاكًا صارخًا لاتفاقية جنيف الرابعة لعام 1949، والتي تنص على ضرورة حماية المدنيين أثناء النزاعات المسلحة، كما تُخالف البروتوكول الإضافي الأول لعام 1977 الذي يؤكد على ضمان مرور المساعدات وعدم عرقلتها.
وحذّر صعايدة من أن الاحتلال يحاول فرض سيطرته على عملية توزيع المساعدات عبر مؤسسات وشركات محسوبة عليه، وإقصاء منظمات أممية مثل الأونروا، ما يفتح الباب أمام الابتزاز واستغلال حاجة السكان للغذاء، ويجعل من هذه العملية أداة ضغط سياسي غير أخلاقية.
وأضاف: 'عرقلة وصول المساعدات واستهداف المدنيين في أماكن التوزيع يُعد جريمة حرب بموجب نظام روما الأساسي، ويجب أن يخضع المتورطون فيها للمحاسبة الدولية'، مشيرًا لافتا إلى وجود مذكرات توقيف دولية صادرة عن المحكمة الجنائية الدولية على خلفية الجرائم المرتكبة في غزة منذ بدء العدوان.
وشدد صعايدة على أن استمرار الصمت الدولي، والانشغال بالصراعات الإقليمية، لا يبرر تجاهل هذه الجريمة اليومية بحق شعب يواجه الجوع والاستهداف في آنٍ واحد.
ودعا إلى فرض رقابة أممية مباشرة على عملية توزيع المساعدات، وتمكين مؤسسات محايدة – وعلى رأسها الأونروا – من استئناف دورها الإنساني دون تدخل أو تحكم من طرف الاحتلال أو وكلائه.
'استخدام الجوع كسلاح حرب'
من جانبه، أكد المكتب الإعلامي الحكومي في غزة، على أن الاحتلال الإسرائيلي يتعمد خلق فوضى شاملة في قطاع غزة من خلال 'استخدام الجوع كسلاح حرب' واستهداف المدنيين الباحثين عن الغذاء في المناطق المنكوبة من القطاع.
وقال المكتب، إن الاحتلال ارتكب على مدار الشهور الماضية، جرائم ممنهجة بحق المدنيين المجوّعين، عبر عمليات قتل مباشرة من خلال الطائرات المسيرة والمروحيات والدبابات، استهدفت شبانًا وأطفالًا وكبار سن هرعوا للحصول على ما تيسّر من المساعدات الغذائية.
وأوضح المكتب أن تلك الجرائم بدأت تتصاعد بشكل لافت منذ أكثر من 100 يوم، حيث بدأ إدخال عدد محدود من شاحنات المساعدات إلى القطاع، لكنها تعرضت لاحقًا للاستهداف المباشر أو السطو من قبل 'عصابات مسلحة مدعومة ضمنيًا من الاحتلال'، ما أسفر عن حالة من الفوضى وغياب الأمن الغذائي.
وأشار إلى أن قوات الاحتلال تتعمد استهداف التجمعات المدنية في محيط نقاط توزيع المساعدات، وتستخدم في ذلك طائرات 'كواد كابتر' والآليات العسكرية الثقيلة، ما أدى إلى 'سقوط آلاف الشهداء والمصابين'، في ظل إغلاق محكم للمعابر ومنع متعمد لإدخال المساعدات بشكل منظم.
وأكد المكتب الاعلامي أن الاحتلال يقيّد كذلك عمل المؤسسات الدولية والإنسانية، ويغطي عمليات 'نهب وسرقة الغذاء والطحين' التي تُنفذ في وضح النهار، مما تسبب في وقوع 'آلاف الضحايا، بينهم مئات الإصابات الحرجة ومفقودين'، على حد تعبيره.
ودعا الإعلامي الحكومي المجتمع الدولي إلى تحرك عاجل لوقف هذه 'الجرائم المنظمة'، مطالبًا بفتح المعابر فورًا والسماح بتدفق المساعدات الإنسانية، وتأمين عملية التوزيع عبر المؤسسات الأممية، وعلى رأسها وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا).
ومنذ أوائل آذار/ مارس الماضي تمنع قوات الاحتلال دخول أي نوع من المساعدات الغذائية أو الطبية، لا الخاصة بالمؤسسات الدولية، ولا غيرها ما خلق أزمة جوع حادة.
لكنها وبعد انتقادات دولية حادة فرضت توزيع بعض المساعدات بآلية فوضوية وغير كافية وخطيرة يلقي فيها الاحتلال والشركة التي تعمل إلى جانبه سلات غذائية بكميات محدودة لعشرات الآلاف من المواطنين الذين يتعرضون للقتل برصاص والآليات العسكرية.
يُذكر أن عدوان الاحتلال المستمر على قطاع غزة، منذ السابع من تشرين الأول/ أكتوبر 2023، أسفر حتى اللحظة عن استشهاد 55,959 مواطنًا، معظمهم من النساء والأطفال، إلى جانب إصابة 131,242 آخرين، في حصيلة غير نهائية، مع بقاء عدد من الضحايا تحت الأنقاض وفي الطرقات، وسط عجز طواقم الإسعاف عن الوصول إليهم بفعل استمرار القصف.