اخبار فلسطين
موقع كل يوم -فلسطين أون لاين
نشر بتاريخ: ٥ تموز ٢٠٢٥
عند ثلاجات الموتى في مجمع الشفاء الطبي، ترقد جثامين الشهيدة ضحى عبده (28 عامًا) وأطفالها الثلاثة: آدم (سنتان)، وخالد (6 سنوات)، وشام (7 سنوات)، إلى جانب زوجها محمد حجيلة وعدد من أقارب عائلته. استهدفتهم ثلاث طائرات إسرائيلية انتحارية مفخخة، عند الساعة الثانية من فجر الخميس، ليتحوّل المأوى الذي نزحت إليه ضحى قبل شهر هربًا من الموت في حي التفاح شرق غزة، إلى محرقة التهمت أجساد أبنائها وطمست ملامحهم، حتى لم يُعرفوا إلا بأسمائهم.
في وداع يشبه العناق الأخير، احتضنت ضحى أطفالها الشهداء وكأنها تصرُّ على الرحيل معهم. رحلت الأم إلى حيث سبَقها زوجها محمد الذي استشهد في بداية الحرب، فواجهت وحدها مصاعب النزوح والحرمان، تنقّلت بأطفالها من مركز إيواء إلى آخر، في بحث عبثي عن ملاذٍ آمن لم يكن موجودًا.
داخل المشرحة، حمل أحد أقارب العائلة جثمان الطفلة 'لين'، لم تُكمل عامها الثاني، وقد لُفَّت بقطعة قماش ووُضعت فوق جثمان والدها صقر حجيلة، في مشهد يُمزق القلب.
وداع لا يشبه الوداع
مع ساعات الصباح الأولى، تجمّع أقارب الشهداء في ساحة المشرحة، والصدمة تكسو ملامحهم. لم تُمنح لهم فرصة لرؤية الوجوه، ولا حتى قبلة وداع؛ فالأجساد تفحّمت بفعل القصف، واكتفى الأهالي بنظرات باكية للأكفان البيضاء، ودموع صامتة اختلطت بصرخات الفقد والفاجعة.
صرخ خال الشهيدة، عثمان عبده، بمرارة: 'نتفاجأ بأنهم يرسلون طائرات انتحارية لتفجير عائلة من أم وأطفال! بأي شرعٍ يُقتلون؟ بأي ضمير؟ حرقوهم أحياء... نطلب الرحمة من الله لأهل غزة.'
جلست والدة ضحى قرب جثمان ابنتها الوحيدة، لا تكاد تصدق ما ترى. قبل يومٍ فقط زارتها، واحتضنت أحفادها، والآن تلقي عليهم نظرة الوداع الأخيرة، فقدت ابنها مصعب قبل أشهر، وها هي اليوم تعيش فاجعة فقد ضحى وأحفادها دفعة واحدة.
'بدنا نروح مع بعض'
يروي شقيق ضحى، عبد الرحمن، بكلمات ثقيلة تُغالب الدمع: 'كانت أختي تخاف على أولادها كثيرًا. كانت تقول: إذا بدنا نستشهد، بدنا نروح مع بعض. ما بدنا يضل حدا يتحسّر على التاني.'
ويضيف لصحيفة 'فلسطين': 'جاءنا الاتصال فجرًا من شقيق زوجها، يخبرنا بما جرى، وعندما وصلنا صُدمنا بتفحّمهم جميعًا.'
يحاول عبد الرحمن التماسك وهو ينظر إلى الأكفان التي تضم أشلاء أبناء شقيقته: 'كانوا في منتهى الجمال. شام كانت تحلم أن تصبح طبيبة، ووالدتهم كانت تدرّسهم بنفسها، ترفض إرسالهم للمراكز التعليمية خوفًا من القصف. كانت تبحث عن الأمان، لكنها لم تجده.'
وكان من المقرر أن يزورها في يوم استشهادها، يقول: 'بعد نزوحنا من حي التفاح إلى منزل عمي، فكرت أن أذهب عندها لأدرس استعدادًا للثانوية العامة، لكن استُشهدت قبل أن أتمكن من رؤيتها. تحدثنا قبلها بيوم، كنا نشتاق إليها كثيرًا. فراقها قاسٍ.'
ويتابع: 'كانت ترى زوجها محمد كثيرًا في المنام، قالت لنا مرارًا إنه يظهر لها في أحلامها... وكأنها كانت تودّعنا دون أن نعلم.'
فقدها كسر شيئًا داخله
بصوت يختنق بالحنين، يقول عبد الرحمن: 'بوجود الأخت، تشعر ببهجة العيد. برحيلها تفقد أشياء كثيرة. كانت قريبة منا جميعًا. بعد استشهاد زوجها، نزحت إلينا وعاشت بيننا... الفقد كسر فيها الكثير.'
ويتذكّر اليوم الأول لفقد زوجها محمد: 'أخرنا إخبارها بوفاته ثلاثة أيام، خشينا على حالتها النفسية، لكنها بدأت تشعر، وحين علمت، دخلت في صدمة استمرت لأكثر من شهرين.'
استشهد محمد أثناء محاولته شراء دواء لابنه الصغير، وكان قد مرّ بوالده يساعده في تعبئة المياه، بينما ذهب الأب لشراء الدواء. في تلك اللحظة، قصف الاحتلال المنزل، واستشهد محمد مع والدته وشقيقاته. واليوم، بلحظة قصف جديدة، لحقَت بهم زوجته وأطفاله، ولم ينجُ من العائلة إلا شخص واحد.
لا أمان حتى في النوم
في زاوية أخرى، جلست قريبات الشهيدة يبكين بصمت موجع. كل العائلة كانت مجتمعة في مركز الإيواء التابع لمدرسة مصطفى حافظ، في لحظة سكينة قبل الفجر. لم يتوقع أحد أن تُغدر أحلامهم بثلاث طائرات مفخخة، تقصف المكان دون إنذار، لتسرق أرواحهم وهم نائمون.
تقول إحدى القريبات، وهي تمسح دموعها: 'ضحى كانت تخشى على أطفالها من القصف في محيط منزل والدها بحي التفاح، فذهبت إلى مركز الإيواء عند أهل زوجها. لكن حتى هناك لم يسلموا. ما ذنب الأطفال؟ ماذا رأوا من الدنيا ليُقصفوا بهذه الوحشية؟'
نزحت ضحى – المعروفة بـ 'أم خالد' – خمس مرات في الأسابيع الأخيرة، بحثًا عن بقعة آمنة. أرادت فقط أن تحمي أطفالها، أن تحافظ على شيء من رائحة زوجها الراحل.
تختم خالتها بحسرة: 'كان أولادها من أجمل ما يكون... أذكياء، وطيبون. لكن انظر كيف صاروا... أين حق الطفولة في غزة؟!'