اخبار فلسطين
موقع كل يوم -فلسطين أون لاين
نشر بتاريخ: ٢ تشرين الثاني ٢٠٢٥
بين ركام البيوت المهدّمة وغبار الذكريات العالقة في الهواء، يقف مخيم الشاطئ غرب مدينة غزة شاهدًا على جريمة إبادة كبرى، وعلى ملحمة صمود لا تقل عنها عظمة.
في الأزقة الضيقة التي كانت تضج يومًا بأصوات الأطفال وروائح الخبز الطازج، لم يتبقَّ سوى أنقاض تحكي وجعًا طويلًا، وسكانٍ يصرّون على البقاء رغم كل ما فقدوه.
فبعد أن تحوّلت مساكنهم إلى أطلال بفعل التوغّل والقصف الإسرائيلي الذي طال المخيم أكثر من مرة، عاد أبناء المخيم ليقيموا خيامهم فوق أنقاض منازلهم، مؤكدين أن الحياة يمكن أن تولد حتى من بين الرماد.
هدم الذكرى
منذ الأيام الأولى لحرب الإبادة التي شنّتها سلطات الاحتلال الإسرائيلي على قطاع غزة في السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023، كان مخيم الشاطئ هدفًا مباشرًا لآلة الحرب.
ومع نهاية الحرب في أكتوبر/تشرين الأول 2025، بدا واضحًا أن الاحتلال لم يكتفِ بتدمير الحجر فحسب، بل أراد محو المكان والذاكرة معًا.
ويقول عدد من سكان المخيم لـصحيفة 'فلسطين' إن تدميره لم يكن عشوائيًا، بل مقصودًا وممنهجًا، في محاولة لتغيير معالمه ودفع سكانه إلى الهجرة القسرية، تمامًا كما حدث عام 1948. ومع ذلك، فإن إرادة الأهالي كانت أقوى من ركام الحرب.
ووسط الركام، يثبت محمد أبو ريالة خيمته الصغيرة حيث كان بيته يومًا، ويقول بعينين تلمعان بالإصرار: 'منزلي دُمّر مرتين، في بداية الحرب ونهايتها، لكنني لن أرحل. سنعيد بناء ما دمّره الاحتلال وسنبقى على أرضنا. هم يريدون تكرار نكبة 1948، لكننا تعلمنا الدرس، لن نغادر ولن نُهجّر مرة أخرى'.
ويردف أبو ريالة: 'سنعيش فوق أنقاض بيوتنا، ولن نغادرها أو نتخلى عنها مهما كلفنا ذلك من ثمن، فنحن أصحاب الأرض الأصليين'.
'محمد' الذي فقد بيته وجزءًا من ذكرياته، يرى أن إعادة نصب خيمته فوق الأنقاض ليست مجرد بقاء جسدي، بل فعل مقاومة بحد ذاته، مرددًا بتحدٍ رغم الألم: 'كل حجر نعيد وضعه هو رسالة للعالم بأننا أحياء رغم كل شيء'.
غير بعيد عن أبو ريالة، ينشغل نضال خضر في جمع حجارة بيته المدمَّر لإعادة بناء خيمته، ويروي لمراسل فلسطين وهو يغالب التعب: 'الاحتلال تعمّد تدمير كل معالم الحياة في المخيم؛ المدارس، شبكات المياه، والمراكز الصحية التابعة للأونروا. أرادوا أن يجعلونا نفكر في الرحيل، لكنهم فشلوا'.
ويضيف نضال: 'ارتكبوا جرائم إبادة جماعية والعالم صامت، وهذا الصمت هو الذي شجعهم على تدمير المخيم مرة تلو الأخرى. لكننا سنعيد الحياة إلى هنا، سنبني ما تهدّم، وسنبقى'.
وعلى بعد أمتار، يحاول أمير كسكين إخراج بعض الحجارة من تحت الركام حيث كان منزله المكوّن من ثلاث طبقات، ويتحدث لمراسل فلسطين وهو يزيح الغبار عن صورة مكسورة لشقيقه رائد الذي ارتقى في بداية الحرب واجتياح المخيم في أكتوبر/تشرين الأول 2023: 'لم يتبقَّ لنا سوى شقة واحدة شبه مهدّمة، وسنرممها لتؤوينا من جديد. لم يعد لدينا سوى هذا المكان، ولن نغادره مهما كان الثمن'.
ويوجه كسكين نداءً إلى العالم: 'نطالب الدول التي رعت اتفاق وقف إطلاق النار، وخاصة مصر وقطر والولايات المتحدة، أن تحاسب الاحتلال على جرائمه. نريد وقفًا حقيقيًا لإطلاق النار، وإعادة إعمار ما دُمّر، وكرامةً تليق بشعبٍ صامد'.
تهجير صامت
وبحسب شهادات السكان، فإن الاحتلال الإسرائيلي استهدف مخيم الشاطئ تحديدًا لتفريغه من سكانه، في إطار سياسة تهجير صامتة تهدف إلى إعادة رسم خارطة الوجود الفلسطيني في قطاع غزة.
ففي الأيام الأخيرة من الحرب، شنّ الجيش الإسرائيلي حملة تدمير ممنهجة ضد المباني السكنية وآبار المياه والمدارس ومراكز التعليم، في محاولة لضرب مقوّمات الحياة وتجريد المخيم من أسباب الصمود. لكن رغم كل ذلك، ظل المخيم ينبض بالحياة، وأبى سكانه أن يكونوا ضحايا لنكبة مكرّرة.
ومن بين الركام، تعلو أصوات الأطفال وهم يلعبون في الساحات المهدّمة، فيما تَخبز النساء على الحطب، وينصب الشباب خيامًا صغيرة لإيواء أسرهم، في مشهد يحمل رسالة بأن المخيم الذي أراده الاحتلال أطلالاً خالية، عاد ليكون عنوانًا جديدًا للصمود الفلسطيني.
فكل خيمة تُنصب، وكل حجر يُعاد إلى مكانه، هو إعلان بأن الحياة أقوى من الموت، وأن البقاء فعل مقاومة.
اتفاق هشّ
ورغم دخول اتفاق وقف إطلاق النار حيز التنفيذ في العاشر من أكتوبر/تشرين الأول الجاري، بعد وساطات إقليمية ودولية، فإن آثار الحرب ما تزال حاضرة في كل زاوية من المخيم.
فالجيش الإسرائيلي انسحب جزئيًا إلى ما يُعرف بـ'الخط الأصفر'، وهو خط وهمي يفصل بين مناطق سيطرته والمناطق التي يُسمح للفلسطينيين بالتحرك فيها، لكن الدمار الواسع جعل الحركة نفسها شبه مستحيلة، فيما لا يزال الاحتلال يطلق حممه النارية على السكان.
ووفق تقديرات أممية، فإن الحرب التي بدأت في أكتوبر/تشرين الأول 2023 أسفرت عن استشهاد أكثر من 67 ألفًا و967 فلسطينيًا وإصابة 170 ألفًا و179 آخرين، معظمهم من النساء والأطفال، فيما تسبب الحصار والمجاعة بوفاة نحو 476 فلسطينيًا، بينهم 157 طفلًا. وتقدّر الأمم المتحدة كلفة إعادة إعمار القطاع بنحو 70 مليار دولار.
ورغم كل شيء، يبقى مخيم الشاطئ رمزًا للثبات الفلسطيني؛ فالمكان الذي حاول الاحتلال محوه من الخريطة ما زال ينبض بالحياة بفضل سكانه الذين رفضوا الاستسلام، مؤكدين أن جذورهم أعمق من أن تُقتلع.
في عيونهم بريق لا يخبو، وفي قلوبهم حلم بالعودة لا يشيخ، وبين الركام تتشكل من جديد قصة وطنٍ لا يموت.




 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 




















































