اخبار فلسطين
موقع كل يوم -وكـالـة مـعـا الاخـبـارية
نشر بتاريخ: ١٩ أيلول ٢٠٢٥
الكاتب: د. ربحي دولة
منذ أكثر من سبعة عقود، تقف فلسطين شاهدة على صمت العالم، وصابرة على ظلمٍ يزداد يومًا بعد يوم. وبينما يُصر شعبها على التمسك بحقه في الحرية، ظل المجتمع الدولي يتأرجح بين بيانات القلق الخجولة ومواقف الحياد البارد، كأن العدالة في فلسطين ليست سوى خيار مؤجل إلى حين. لكن شيئًا ما في هذا العام تغيّر، كأن ميزان الأخلاق الدولي بدأ يميل قليلًا نحو الحقيقة. فقد أعلنت دول مثل فرنسا وبريطانيا وإيرلندا وإسبانيا، للمرة الأولى بهذا الوضوح، اعترافها الرسمي بدولة فلسطين. هذه المواقف، وإن تأخرت كثيرًا، لا يمكن التقليل من دلالتها السياسية والرمزية، فهي لا تعكس فقط تحولًا في لغة الخطاب، بل تشي بأن القضية الفلسطينية بدأت تخرج من عزلتها المصطنعة، لتتقدم في المشهد الدولي بصفتها قضية حرية شعب، لا مجرد ملف نزاع إقليمي.
ورغم أهمية هذه الاعترافات، فإن الخطورة تكمن في أن تظل في إطارها الرمزي، دون أن تتحول إلى أفعال تضغط فعليًا على منظومة الاحتلال. لذلك، فإن المهمة التي تقع على عاتق الفلسطينيين وكل أصدقاء العدالة في هذا العالم هي ألا يسمحوا لهذه اللحظة أن تمر كغيرها. فما نشهده اليوم هو فرصة استراتيجية لإعادة صياغة العلاقة بين فلسطين والعالم، ليس على أساس الشفقة، بل على أساس الشراكة في المبادئ. الاعتراف بدولة فلسطين لا يجب أن يُفهم على أنه منّة من أحد، بل هو تصحيح لمسار طويل من الانحياز والكيل بمكيالين.
وفي هذا السياق، تبرز ضرورة بناء تحالف عالمي حقيقي من أصدقاء فلسطين، تحالف لا يقوم فقط على العواطف، بل على المواقف الفعلية، والتشبيك السياسي، وتوحيد الجهود الحقوقية والشعبية والمؤسساتية. فالدول التي أعلنت اعترافها، مطالبة الآن بأن تترجم أقوالها إلى أفعال، عبر وقف صفقات السلاح مع الاحتلال، وفرض عقوبات عليه كما فُرضت على دول أخرى انتهكت حقوق الإنسان، ومساندة المسار القانوني الدولي لمحاسبة مجرمي الحرب. أما على مستوى الشعوب، فإن الرأي العام العالمي أصبح أكثر انفتاحًا على الرواية الفلسطينية، وأكثر استعدادًا للانخراط في حملات مقاطعة الاحتلال ومناصرة الضحايا. وهذا التحول لا يجب أن يُترك للصدفة، بل يحتاج إلى تنظيم دقيق وتواصل مستمر وجهود دبلوماسية شعبية مدروسة.
إن توسيع دائرة أصدقاء فلسطين لم يعد خيارًا هامشيًا، بل أصبح ضرورة استراتيجية في مسار النضال. ففي عالم تتعدد فيه الأزمات، وتتنافس فيه القضايا على الاهتمام الدولي، لا مكان لمن ينتظر أن يُنصفه الآخرون طوعًا. علينا أن نذهب إليهم، نحاورهم بلغتهم، ونخاطب ضمائرهم ووعيهم، ونفتح لهم أبواب فهم القضية الفلسطينية كما يرويها أصحابها، لا كما شوّهتها ماكينة الدعاية الإسرائيلية لعقود. لم يعد ممكنًا أن نبقى أسرى خطاب الشكوى، ولا أسرى ردود الفعل، بل نحن مدعوون اليوم لصياغة خطاب استباقي، مبادر، وذكي، يعرف متى يصمت ومتى يصعد، ومتى يفاوض ومتى يواجه.
الاعترافات الدولية الأخيرة ليست سوى بداية الطريق، لكنها بداية تحمل في طياتها إمكانات واسعة إذا ما أُحسن توظيفها. قد لا تُغيّر هذه المواقف موازين القوى على الأرض فورًا، لكنها تستطيع أن تُحدث شرخًا في جدار الصمت، وتُعيد فلسطين إلى قلب النقاش العالمي بصفتها قضية أخلاقية، قانونية، وسياسية. المطلوب الآن أن يُبنى على هذا الزخم، وأن نُدرك أن كل حليف جديد لفلسطين هو صفعة جديدة تُوجه للاحتلال، وكل صوت يرتفع من أجل إنهاء الظلم هو خطوة نحو الحرية.
إن العالم، حين يبدأ بالاعتراف، يكون قد بدأ في التراجع عن صمته. وحين تبدأ دول مركزية في إعلان دعمها الصريح، فهذا يعني أن الرواية الإسرائيلية لم تعد وحدها تُهيمن على المشهد. ولكن ما لم يتم تحويل هذه اللحظة إلى منظومة فعل مستدامة، فإنها ستتلاشى كما تلاشت لحظات سابقة كانت مبشرة. من هنا، فإن توسيع دائرة الأصدقاء لا يعني فقط حصد المواقف، بل بناء شبكة تضامن عالمية، سياسية وشعبية، تربط فلسطين بكل نضال في العالم ضد الظلم والعنصرية والاحتلال.
فلسطين اليوم لا تسأل العالم أن يمنحها الحق، بل تسأله أن يقف إلى جانب هذا الحق، وأن يتحمل مسؤوليته الأخلاقية والسياسية. هذه ليست معركة الفلسطينيين وحدهم، بل هي امتحان لضمير العالم. والاعتراف، في جوهره، ليس نهاية، بل بداية الطريق نحو تحالف عالمي من أجل العدالة والكرامة والحرية.
٠ كاتب وسياسي فلسطيني