اخبار فلسطين
موقع كل يوم -فلسطين أون لاين
نشر بتاريخ: ٢٥ تشرين الأول ٢٠٢٥
وجوه غابت ملامحها، وأجساد تحللت حتى تاهت عن أصحابها. بين صور الجثامين الممزقة والمشوهة، تتذوق عائلات المفقودين وجعًا آخر في رحلة البحث عن بصيص أمل يقودهم إلى أبنائهم الذين فقدوا منذ عامين. يتفقدون الجماجم ويتأملون الأسنان، محاولين العثور على علامة تدلّهم إلى أحبّتهم وتنهي رحلة بحثٍ مريرة عن مصيرٍ مجهول، متشبثين بخيط ذاكرة ربما يقودهم إلى لون بنطال أو قميص كان آخر ما ارتداه ابنهم المفقود.
داخل صالة عرض صور الجثامين في مستشفى ناصر بمدينة خان يونس جنوب قطاع غزة، تجلس الخمسينية نبيلة راضي بين عشرات من ذوي الشهداء، تحدّق بعيونٍ مذهولة وقلبٍ مفجوع في صورٍ مبكية لجثامين تحمل آثار تعذيبٍ شديد، بعضها وصل معصوب العينين أو بدا عليه أنه تعرّض لشنقٍ أو إعدامٍ ميداني.
يحاول أخصائي الأدلة الجنائية الذي يعرض الصور مساعدة الأهالي في التعرف على أبنائهم، مطالبًا إياهم بالتركيز على العلامات الفارقة. لكن الاحتلال عقد مهمة العائلات أكثر، إذ لم يرسل كشوفات الأسماء ولا بيانات الجثامين، رغم أنه سحب عينات DNA. ترك أدلة الجريمة واضحة على الأجساد: أصابع مبتورة من الأيدي أو الأقدام لاختبارها، كأنها الشاهد الأخير على هوية أصحابها، ثم منع إرسالها إلى الأهالي.
صراع مستمر
نهاية أكتوبر/تشرين الأول 2023، فقدت راضي ابنها عبيدة في منطقة المغراقة جنوب شرق مدينة غزة، ومنذ ذلك الحين لم تصلها أي معلومة عنه. جاءت إلى مستشفى ناصر على أمل أن تجد جثمانه، وقالت لـ 'فلسطين أون لاين' وهي تراقب شاشة العرض بقلبٍ مكسور:
'لا يمكن معرفة أبنائنا من خلال هذه الجثامين المشوهة، نحن بشر من لحمٍ ودم، أبناؤنا خرجوا من عائلاتٍ كريمة، يوضعون على الرؤوس. هذه الصور تقشعرّ لها الأبدان، وأنت ترى أحدهم مشنوقًا وآخر مقيّد اليدين.'
وأضافت بصوتٍ مثقلٍ بالوجع: 'القلب يبكي على أبنائنا قبل العين. منذ عامين لم أرَ نجلي. جئت بالأمس وهأنذا اليوم أعود من جديد، ولا أستطيع الوصول إلى أي معلومة عنه... قلبي يحترق.'
لم تأتِ العائلات التي فقدت أبناءها يوم 7 أكتوبر لمشاهدة الجثامين فقط، بل جاءت عائلات أخرى فقدت أبناءها في أماكن مختلفة، بحثًا عن أي بصيص أمل ينهي صراعها حول مصير أحبّتها.
من بين هؤلاء حياة مصبح التي جاءت برفقة طفلتها بحثًا عن زوجها المفقود محمد إبراهيم مصبح، وتروي لصحيفة فلسطين: 'ذهب زوجي لتفقد منزلنا في بلدة عبسان الكبيرة شرق خان يونس، ولم يكن يعلم أن جيش الاحتلال تقدم هناك. كان ذلك قبل خمسة أشهر، ومن يومها لم يعد. رأيت صور الجثامين، لكنها بلا ملامح أو معالم أو أسماء. من الصعب جدًا أن نتعرف على هذه الجثامين المشوهة.'
أصرّت طفلتها على مرافقتها لرؤية جثمان والدها، وقالت بنبرةٍ لم تفقد الأمل: 'لا زلنا نعتقد أنه حيٌّ وأسير، لكن الغموض يحيط بمصير الأسرى، ولا نعلم إن كان شهيدًا أم معتقلًا.'
في الصالة ذاتها، يراقب نجل المفقود حماد سليمان مشاويخ الصور الخاصة بكبار السن، يتفحّصها بدقة، يبحث في شكل الرأس واللحية ولون الشعر والعباءة، بين الصور المعروضة لجثامين كبار السن. يقول لـ 'فلسطين أون لاين': 'فُقد أبي في 21 آب/أغسطس 2025 في حي تل السلطان بمدينة رفح، وأبلغنا الصليب الأحمر بذلك. وبمجرد وصول دفعات الجثامين، جئنا إلى هنا للبحث عنه. الجثامين أوضاعها صعبة جدًا، وتُظهر أن الاحتلال نكّل بها بعد استشهادهم، حتى لم نعد نستطيع التعرف على ملامحهم.'
معرفة مصير والده، إن كان أسيرًا أم شهيدًا، أمر مصيري بالنسبة لمشاويخ وعائلته، لكن بمجرد رؤيته للصور القاسية، يدرك أن المهمة شبه مستحيلة: 'الصور تتعب النفسية، وتفتح الجروح وتقلب المواجع.'
بين تلك العائلات، تجلس زوجة المفقود سليمان عبد الخالق العطار برفقة طفلتها. فقدت زوجها الذي كان يعمل داخل الأراضي المحتلة يوم 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023 في منطقة 'أشكول'، حيث كان يعمل في أرضٍ زراعية. تقول لـ'فلسطين أون لاين': 'شاهدت فيديو نشره الاحتلال يُظهر قنص زوجي، رغم أنه كان عاملًا في الداخل المحتل. رأيت الصور هنا، لكنها بلا ملامح، لم أتعرف إليه بينها.'
على الطرف الآخر، تذرف والدة المفقود نور سهير أبو طيبة الدموع وهي تشاهد صور الجثامين المفرج عنهم على شاشة العرض. ابنها حُوصر في مستشفى ناصر يوم 21 يناير/كانون الثاني 2024 أثناء حصار الاحتلال للمستشفى. تقول لـ'فلسطين': 'كنا محاصرين داخل المدارس، وحاول نجلي المرور عبر حواجز الاحتلال. هناك شهود عيان قالوا إنه أُسر، وبعضهم أكد أنه رآه في سجون الاحتلال، وآخرون ذكروا أنه في سجن عوفر. لكن الصليب الأحمر يخبرنا أنه لا توجد لديه أي معلومات عنه. أريد فقط معلومة تبرد قلبي. جئت اليوم لأطرق آخر باب، لكن الصور زادت عذابي أكثر.'
إخفاء الأدلة
من جانبه، يؤكد رئيس لجنة إدارة الجثامين في وزارة الصحة د. أحمد ضهير أن الوزارة تسلّمت حتى لحظة إعداد التقرير 150 جثمانًا عبر اللجنة الدولية للصليب الأحمر، تمكّن 31 شخصًا فقط من التعرف على ذويهم. ويقول: 'الجثث وصلت بحالة تجميد شديدة، وبعضها متحلل، وبعضها عارٍ من الملابس، ومقيد من المعصمين والكاحلين، وعليها كدمات وآثار أعيرة نارية في الرأس والصدر، وحالة واحدة بها حروق متقدمة، وأخرى تحمل شظايا.'
ويضيف: 'بسبب التجميد الكبير لم نستطع إجراء سوى الكشف الظاهري على الجثامين، وتوثيق الإصابات والطول والبنية، وتصويرها من قبل الأدلة الجنائية. نشرنا عبر الوزارة رابطًا يتيح للأهالي التعرف على صور أبنائهم، وفي حال التعرف، يتوجهون للأدلة الطبية لمراجعة باقي الملف قبل استخراج الجثمان لمعاينته.'
وأوضح ضهير أن مهمة الفحص تركز على العلامات الفارقة مثل الأسنان، والعمر، والبنية، والندوب، والملابس المميزة، والمقتنيات الشخصية. لكن عدم وجود فحوصات DNA يصعّب المهمة، إذ لا تمتلك دائرة الطب الشرعي مختبرات متخصصة للفحوصات المخبرية أو الجنائية أو تحليل الأنسجة.
وأشار إلى وجود إجراءات قانونية وفنية تترتب على عملية تسليم الجثامين، من خلال التمحيص الدقيق لكل حالة بهدف التعرف الكامل على الجثمان، وبعد انتهاء المهلة القانونية يتم دفن الجثامين في مقبرة مجهولي الهوية بمحافظة الوسطى، التي تضم نحو ألف قبر، وفق خريطة مكانية دقيقة حسب الرقم، بحيث يمكن التعرف عليها مستقبلًا في حال توفر فحوصات DNA أو عبر المطابقة من قبل ذويهم.

























































