اخبار فلسطين
موقع كل يوم -فلسطين أون لاين
نشر بتاريخ: ٢٥ حزيران ٢٠٢٥
في قطاع غزة، لم تعد الطرق المؤدية إلى الحياة آمنة، ولا حتى تلك التي يسلكها الجوعى طلبًا لكيس طحين أو علبة طعام. ومع دخول المجاعة شهرها الخامس، واستمرار حرب الإبادة الإسرائيلية للشهر العشرين على التوالي، يخرج الآلاف يوميًا، رجالًا ونساءً وشيوخًا، إلى مناطق خطرة على أطراف غزة الشمالية والوسطى، علّهم يحصلون على ما يسدّ رمقهم ورمق أطفالهم. لكن كثيرين لا يعودون أحياء.
في مشهد بات يتكرر بوحشية كل يوم، يتزايد عدد الشهداء والمصابين عند نقاط توزيع المساعدات، حيث تقف قوات الاحتلال على مقربة، تراقب ثم تطلق النار أو تقصف، فتتحول ساحة الانتظار إلى مذبحة.
وقد اتهمت مفوضية الأمم المتحدة السامية لحقوق الإنسان الاحتلال الإسرائيلي بارتكاب 'انتهاكات جسيمة للقانون الدولي'، مؤكدةً أن أكثر من 500 فلسطيني قُتلوا حتى الآن أثناء محاولاتهم الحصول على المساعدات، إضافة إلى آلاف الجرحى. وفي السياق نفسه، قالت حركة حماس إن الاحتلال يستدرج المدنيين إلى مناطق القتل، ويطلق النار عليهم بدم بارد، في واحدة من 'أبشع جرائم العصر الحديث'.
الخبز ثمنه دم
بالقرب من منطقة زيكيم شمالي غزة، حيث يحتشد الآلاف حول شاحنات مساعدات محدودة، وقف أبو محمد الهسي، خمسيني من سكان القطاع، يروي تفاصيل المشهد المروّع:
'الشهداء ملقون في الشارع الذي نسلكه كل يوم. لا أحد يقدر أن يقترب منهم، فالاحتلال يطلق النار على كل من يتحرك. أمس فقط، انتشلنا جثمان شاب قُتل لأنه أراد كيس طحين. التهمة وحدها كانت كفيلة بإعدامه ميدانيًا. لم نتمكن من إخراجه إلا بعد ساعات من التوسّل والاختباء خلف الحطام'.
ويتابع: 'اعتدنا على الرعب، لكن ما يحدث اليوم يفوق كل وصف. المساعدات تحوّلت إلى مصيدة، والطرقات إلى فخاخ موت'.
أما محمود غراب، شاب في الثلاثين من عمره، فيقول: 'أنا وإخوتي خاطرنا بحياتنا مرارًا لنؤمّن طعامًا لعائلاتنا. أمس، كنّا قرب نقطة التوزيع حين دوّى إطلاق النار. رأينا القذائف تنفجر وسط الجموع. تركنا كل شيء، وركضت لأنقذ ابن عمي الذي أصيب بشظية. سحبته بصعوبة، ونجونا بأعجوبة'.
ويضيف، بعينين غارقتين بالحزن: 'لم أعد أبحث عن المساعدات، بل عن النجاة. الطعام لم يعد أولوية أمام الموت المجاني'.
الموت المجاني
الحكاية تتكرّر، وإن اختلفت الأسماء والمآسي. أنس الخطيب، أب لأربعة أطفال، يقول إنه توجّه أكثر من ست مرات إلى نقاط توزيع المساعدات، لكنه عاد في كل مرة خالي الوفاض.
'كنت أظن أنني قادر على جلب شيء لأطفالي الذين لم يذوقوا الخبز منذ أيام. لكنني في كل مرة أعود مكسورًا. رأيت بأم عيني الجرحى والمقطّعين بفعل رصاص الاحتلال وقذائفه. من كنت أراه حيًّا، فجأة يسقط على الأرض جثة هامدة. بعد ما رأيته... لن أعود إلى هناك أبدًا. سأصبر، وأدعو الله أن يُفرّج عنا'.
تفيد تقارير الأمم المتحدة والمنظمات الحقوقية بأن الاحتلال يقيد إدخال المساعدات الإنسانية بشكل منهجي، ويمنع وصول الغذاء والوقود والدواء، في محاولة واضحة لإطالة أمد المجاعة. ومنذ مارس/ آذار الماضي، لم يُسمح سوى لعدد محدود جدًا من الشاحنات بالدخول، عبر آلية تُشرف عليها 'الشركة الأميركية' بالتنسيق مع قوات الاحتلال.
وقد وُجهت انتقادات واسعة للآلية العسكرية الإسرائيلية في إدارة المساعدات، التي فاقمت الفوضى، وعرّضت المدنيين للخطر، وسط غياب الرقابة أو أي ضمانات للحماية.
وبحسب مفوضية حقوق الإنسان، فإن تسليح الغذاء وتحويله إلى وسيلة قتل يرقى إلى جريمة حرب، وقد يشكّل في بعض السياقات جريمة إبادة جماعية.
الطوابير.. جبهات موت
وسط هذا الجحيم، يواصل أهالي غزة صمودهم، في واحد من أقسى مشاهد القرن. مئات الآلاف من العائلات باتت بلا مأوى، بلا طعام، بلا دواء، وبلا أمل. ومع تفاقم المجاعة وانقطاع المواد الأساسية، أصبح الوقوف في طوابير المساعدات مهمة انتحارية لا تقل خطرًا عن القتال في جبهة حرب.
لكن، رغم هذا الموت الجماعي، لا تزال في غزة أرواح ترفض أن تُهزم، وأجساد تصّر على الحياة، ولو على بقايا الحنطة الملطخة بالدم.