اخبار فلسطين
موقع كل يوم -وكـالـة مـعـا الاخـبـارية
نشر بتاريخ: ١١ حزيران ٢٠٢٥
الكاتب:
اسماعيل جمعه الريماوي
لم تكن سفينة 'مادلين' المتجهة إلى غزة مجرد قارب صغير يشق أمواج البحر، بل كانت صرخة في وجه الصمت العالمي، ورسالة بحجم المأساة الفلسطينية، وراية للحرية ترفرف من قلب البحر المتوسط إلى ضمير البشرية، تلك السفينة لم تحمل سلاحًا ولا جيوشًا، بل حملت عزيمة أحرارٍ من مختلف دول العالم، جاءوا بأجسادهم العزلاء ليقفوا في وجه أعتى منظومة احتلال، ويقولوا للعالم: غزة ليست وحدها .
ركب هؤلاء المتطوعون، رجالاً ونساء، بحرًا تدرك كل موجة فيه معنى أن تعترضك البحرية الإسرائيلية، وأن يُسحب القارب بالقوة، وأن تُزج في السجون أو يُعتدى عليك. ومع ذلك أبحروا. لم يكونوا فلسطينيين، ولم يكونوا عربًا، بل أجانب لا يربطهم بغزة سوى شعور إنساني خالص بالعدالة والحرية والرفض القاطع للحصار والقتل الجماعي. خاطروا بحياتهم لا لأجل وطنهم، بل لأجل شرف البشرية الذي يُداس كل يوم على حدود القطاع .
وفي المقابل، كان المشهد في الضفة الأخرى من البحر مُخزيًا. عربٌ يملكون الأساطيل والموانئ، والطائرات والمطارات، والفضائيات والمنابر، لكنهم اكتفوا بالتفرج. صمتوا، وربما تمنوا في قرارة أنفسهم أن لا تصل السفينة، كي لا تُحرج أنظمتهم وتكشف عجزهم. بعضهم برر، وبعضهم تجاهل، وبعضهم أغمض عينيه وكأن غزة بلد غريب لا يعنيه .
هنا تكمن المفارقة المؤلمة: من يتكلم باسم العروبة يُصادر، ومن يتكلم باسم الإنسانية يُبحر. لقد أصبحت قضية فلسطين، في زمن الانحطاط العربي، عبئًا على بعض الأنظمة التي تلهث للتطبيع، بينما تحولت إلى بوصلة للكرامة عند الشعوب الحرة خارج هذه المنطقة، ولهذا أبحرت 'مادلين' لا لكي تكسر الحصار فقط، بل لكي تكسر الجدار الصامت الذي بناه العرب حول غزة.
لقد كانت مهمة السفينة ناجحة بكل المقاييس، ليس لأنها وصلت، بل لأنها أوصلت، أوصلت صوت غزة إلى كل بيت، وفضحت وحشية الاحتلال وجبنه في مواجهة ناشطين عزّل، وعرّت نفاق العالم، وأعادت إحياء المأساة في ضمير الإنسانية. لكن في قلب هذا الإنجاز، يظل السؤال الموجع حاضرًا: لماذا لم تبحر هذه السفينة من بلد عربي ؟
ربما لأن قلوبهم غرقت في بحر التطبيع، أو لأن أنظمتهم منعتهم من أن يبحروا، أو لأنهم اعتادوا على مشهد المذبحة حتى فقدوا الإحساس بالدماء .
'مادلين' ليست نهاية الرحلة، بل بدايتها. هي دعوة لكل أحرار هذا العالم كي يركبوا قواربهم ويكسروا الحصار، ودعوة لكل صامتٍ كي يسمع صوت غزة ولو من أعماق البحر.