اخبار فلسطين
موقع كل يوم -فلسطين أون لاين
نشر بتاريخ: ١٣ نيسان ٢٠٢٥
لم يدرك الصحفي محمد الصالحي أنه سيكون أول شهداء الصحافة خلال حرب الإبادة التي يشنها الاحتلال على قطاع غزة في 7 أكتوبر/ تشرين الأول 2023، وأن الاحتلال سيغتال حلمه بأن يكون مصورا صحفيا على غرار كبار الصحفيين والمصورين الفلسطينيين، ورغم ارتدائه درعا صحفية وخوذة لتكونا علامة توفر له الحماية، لم يكترث قناصة الاحتلال لها بل كان الهدف الأول لهم كما أصبح الصحفيون هدفا أساسيا لجيش الاحتلال خلال مسار حربه على القطاع.
فبينما كان الصالحي يحاول توثيق الأحداث الجارية شرق البريج بتواجده على مقربة من السياج الفاصل وهو يحمل كاميرا، باغته جنود جيش الاحتلال بإطلاق الرصاص عليه أصابت كتفه وصدره، وظلت الصورة التي التقطها شاهدة على الجريمة، والكاميرا التي تهشمت وثيقة على الاستهداف الممنهج لعين الحقيقة، والتي يفترض أنها محمية بموجب القوانين الدولية التي ضربها الاحتلال وجنوده بعرض الحائط.
بعد يومين من استشهاد الصالحي، ومساء 9 أكتوبر ذاته، ارتكب الاحتلال مجزرة بحق الصحفيين، سعيد الطويل، وهشام النواجحة، ومحمد صبح أثناء محاولة توثيق قصف أحد الأبراج وقبل أن يقصف الاحتلال البرج استهدف مكان تواجدهم أثناء نصب الكاميرا وتجهيزها لالتقاط صورة الحدث.
منذ تلك الحادثتين وخلال مسار الحرب لم يتوقف الاحتلال عن استهداف الصحفيين الذين بلغ أعداد الشهداء منهم 211 صحفيا، فيما زاد عدد المصابين عن 410 صحفيين، كان آخر الشهداء أحمد منصور، وحسام شبات وهو مراسل الجزيرة مباشر بشمال القطاع، والمذيع محمد البردويل، والصحفية إسلام مقداد، وقبلها استهدف عاملين بمجال الإعلام الإغاثي بينهم الشهيدان بلال أبو مطر ومحمود اسليم.
إحراق الحقيقة
فجر 7 إبريل/ نيسان الجاري، بثوانٍ أكلت نار ناجمة عن قصف إسرائيلي خيمة للصحفيين تعرضت للقصف تقع بمحيط مجمع ناصر الطبي بخان يونس، لم تصمد قطع الخيمة القماشية أمام النار التي حاصرت أجساد الصحفيين النائمين، وتمددت للخيام المجاورة بسرعة فائقة، وسبقتها شظايا صاروخ أصابت أجسادهم في واحد من أبشع الجرائم المروّعة بحقهم.
في المجزرة، شاهد العالم احتراق الصحفي أحمد منصور وهو يتقلب النار كان يجلس على مكتب ومقعد ويمارس عمله في تحرير الأخبار، كان الهدف إحراق الحقيقة، واستشهد معه الصحفي حلمي الفقعاوي وأصيب 9 صحفيين.
علي إصليح وهو مراسل ومحرر صحفي في وكالة علم 24، كان لحظة الاستهداف نائما، واستيقظ على صراخ زملائه، وافتراش الخيمة دخان شديد، 'ركضت دون وعي من الخيمة إلى قسم الطوارئ بمجمع ناصر الطبي، ولا أعلم أني مصاب إلا بعد ربع ساعة من الصدمة وأصبت بشظايا في القدم والحوض، ولا أعرف من استشهد أو أصيب' يروي اصليح لصحيفة 'فلسطين' ما حدث.
في آخر تغطية، وثق اصليح مجزرة استهداف عائلة النفار في استهداف منزلهم وسط خان يونس حيث وصل تسعة شهداء، وقبل الاستهداف تجمع الصحفيون على مائدة طعام تبادلوا الحديث بعد يومٍ من العمل والتعب، وناموا مستعدين لتغطية جديدة، فكانوا هم الحدث التالي والخبر الأبرز في عناوين الخبر.
وإن كان الاحتلال يهدف من خلال الجريمة لثني الصحفيين عن ممارسة عملهم، لكن اصليح يؤكد بنبرة إصرار على مواصلة التغطية، معتبره، عملا وطنيا وإنسانيا، 'المجازر تطال الجميع سواء صحفي أو مدني، ونحن نطالب بحماية دولية، لأن ميثاق جنيف يحتم ويلزم أي أطراف نزاع في العالم باحترام الصحفي وعدم استهدافهم' يشدد.
لم تكن صورة احمد منصور، وهو يحترق داخل خيمة الصحفيين قرب مستشفى ناصر، مجرد مشهد عابر ضمن مشاهد الحرب، 'فكانت الصورة صدمة مدوية للعالم، تجسيدا لما يعنيه ان تكون صحفيا في غزة، أن تكتب تقرير الاخير باللهب، وان تكون جسدك هو الوثيقة' يقول الصحفي سائد حسونة.
وأضاف لصحيفة 'فلسطين': 'حين رأيت الصورة لأول مرة، خيل إلي أن أحمد يصرخ فينا جميعا، 'لا تتركوا الحقيقة تحترق'، عرفت المكان جيدا، وعرفت احمد اكثر، خيمته كانت نقطة التقاء الصحفيين، مساحة آمنة وسط الخطر، لكنها تحولت إلى محرقة بفعل صاروخ لا يفرق بين بشر وكاميرا.
ويعد حسونة الجريمة، استهدافا مزدوجا للحقيقة والانسان، ويؤكد 'ما جرى لأحمد منصور ليس حادثا عرضيا، بل جريمة مكتملة الأركان، الاحتلال لم يكتف بقصف المباني فوق رؤوس الاطفال، بل قرر قصف الكلمة التي توثق هذه الجرائم، كان احمد شاهدا على القصف فصار هو المشهد نفسه، جسده المحترق بات وثيقة دامغة على بشاعة من أرد طمس الحقيقة لكنه لم ينجح'.
ويتابع: 'أحمد لم يكن على جبهة قتال، بل داخل خيمة إعلامية، وسط زملائه، في مكان يفترض ام يكون محميا وفق القانون الدولي، ومع ذلك، احترق حيا، صدم العالم، وتحرك كثيرون، لكن حتى اللحظة، لم يحاسب احد، وكأن إحراق الصحفيين صار خبرا عاديا في يوميات غزة'.
وعرف حسونة الصحفي منصور عن قرب، فكان صحفيا بارعا ويتمتع بحس عال بالمسؤولية التحريرية والإنسانية، دقيق، ملتزم، مثابر بشكل يفوق الخيال، وكان يدرك أن الاحتلال يراقب الصحفيين ويضع أعينا على خيمتهم ومواقع عملهم لكنه لم يتراجع، 'سيبقى صوت احمد في ارشيف تقاريره، لا أكتب عن احمد كخبر، بل كوجع، كجزء من ذاكرتنا المهنية والشخصية التي تشتعل يوميا في غزة، ولكنها لا تنكسر، ما حدث له رسالة لكل صحفي حر، ولكل من يظن أن الصورة أضعف من الرصاصة'.
منع التغطية الإعلامية
استهداف الصحفيين منذ بداية حرب الإبادة من قبل الاحتلال، يؤكد وفق رئيس الهيئة الدولية للدفاع عن حقوق الشعب الفلسطيني 'حشد' د. صلاح عبد العاطي أن الهدف منه هو محاولة لثنيهم عن القيام بمهامهم في فضح جرائم الاحتلال ومنع التغطية الإعلامية، وهذا هدف الاحتلال من إبادة الصحفيين.
وقال عبد العاطي لصحيفة 'فلسطين': إن: 'الأمر تعدى الاستهداف لمستوى الإبادة، بعد كل هذا العدد من الشهداء والمصابين والمعتقلين وتدمير المباني والمنشآت والمقرات الصحفية ومنع دخول وكالات الإعلام الأجنبي للتغطية، والتواطؤ مع الإعلام الاجتماعي في حجب المحتوى الفلسطيني، وجمعيها تؤكد أن الاحتلال كان ماض في مخططاته لإبادة سكان القطاع ومنع الصحفيين من القيام بواجباتهم'.
وبمقارنة عدد شهداء الصحافة بغزة بعدد من قتل من الصحفيين حول العالم، لفت عبد العاطي، أنه في كل النزاعات حول العالم لم تنتهك كرامة وحياة الصحفيين كما حدث في حرب الإبادة التي يشنها الاحتلال على غزة، بحيث بلغ أعداد شهداء الصحافة أعلى ممن قتل من الصحفيين في كل نزاعات العالم بالسنوات العشر الأخيرة.
وحول دور المنظمات الدولية والحقوقية والاتحاد الدولي للصحافيين في مساءلة الاحتلال على جرائمه، أشار عبد العاطي أن الاتحاد الدولي للصحفيين استمر بالشجب والإدانة دون اتخاذ خطوات فعلية لضمان مساءلة الاحتلال أمام المحاكم الدولية، وأصدر مذكرة إحاطة أو بيانات دولية وأشاد بجهود الصحفيين.
وشدد، أنه ينبغي أن تكون هناك مساءلة للاحتلال باستخدام مبدأ الولاية القضائية الدولية ومحكمة الجنايات الدولية ودعم كل السبل لحماية الصحفيين.
شاهد حي
والصحفي الفلسطيني، وفق مدير المكتب الإعلام الحكومي بغزة د. إسماعيل الثوابتة، كان وما زالت شاهدا حيا على الحقيقة، ونقطة الضوء التي تخترق جدران التعتيم والظلام الذي يحاول الاحتلال فرضه على جرائمه.
وقال الثوابتة لصحيفة 'فلسطين': 'منذ اليوم الأول لحرب الإبادة، أدرك الاحتلال أن الكاميرا أقوى من الرصاصة وأن الصورة الصادقة التي تنقل حجم الإبادة والمجازر بحق المدنيين، تفضح زيف روايته أمام العالم، وتسقط أقنعته الإعلامية.
وأضاف: 'لذلك، كان استهداف الصحفيين سلوكا متعمدا ومدروسا، الهدف من وراء ذلك اسكات الصوت الفلسطيني، وكسر عين الحقيقة التي تكشف جرائمه في الميدان، هؤلاء لم يقتلوا بالخطأ، بل تم اصطيادهم وقتلهم وإعدامهم عن الكلمة الحرب والصورة المؤلمة'.
ولعب الصحفيون دورا محوريا في تدويل القضية، ونقلوا مشاهد الإبادة إلى كل بيت حول العالم، رغم قلة الإمكانيات وضعف الدعم، هم من حولوا المأساة اليومية في غزة إلى قضية ضمير عالمي وحركوا الشعوب والبرلمانات والمؤسسات الحقوقية، بل والشوارع في أنحاء وعواصم العالم، وحركوا طلبة الجامعات في جامعاتهم، وجعلوا الاحتلال في موقع الاتهام الدائم. وفق الثوابتة
وأكد أن الصحفي الفلسطيني لم يكن مجرد ناقل خبر، بل كان فاعلا في المعركة، جنديا في ميدان المواجهة الإعلامية، يقاوم بالكلمة والصورة والحقيقة من خلالهم، فأصبحت غزة حاضرة في الوعي العالمي، والاحتلال محاصرا أخلاقيا وإعلاميا كما هو محاصر سياسي وقانوني.
وشدد على أن دماء الصحفيين ستظل علامات خالدة في ذاكرة الأجيال، وشواهد حية على نبل الرسالة الإعلامية الفلسطينية، سيتربى أبناؤنا على أسماء الشهداء الصحفيين كما يتربون على أسماء الأبطال والمجاهدين، وهي وقود الوعي الجمعي، وستظل تروي جذور الانتماء الوطني، وتشكل وجدانا إعلاميا مقاوما لا يرضى بالتحريف ولا يخاف من القمع.