اخبار فلسطين
موقع كل يوم -فلسطين أون لاين
نشر بتاريخ: ١٧ أيلول ٢٠٢٥
ارتقى شهيدًا في سجون الاحتلال بعد سبعةَ عشرَ شهرًا من العذاب في سجون الاحتلال. ويذكر أن أسرته من العائلات التي استُشهِدت وشُطِبَت من السجلّ المدني وهو في السجن.
هل بالإمكان أن يصبح هذا الخبر عاديًا ونمرُّ عليه مرورَ الكرام؟ كيف كان وقعُ خبر استشهاد العائلة على أسيرٍ معذَّبٍ بكلِّ عذاباتِ ابنِ غفير التي صُبَّت على رؤوسِ المعتقلين كلَّ أحقادِه السوداء، في زنزانةٍ كئيبةٍ شُحِنَت بكلِّ أشكالِ الإهانةِ والتنكيلِ وسوءِ العذاب؟ تسلَّلَ الخبر بطريقةٍ متعمدةٍ شامتةٍ حاقدة: «لقد قَتلنا لك كلَّ عائلتك، الصغير قبل الكبير، الزوجة والطفل والولد، محقنا لك عائلتك وتركناك فريدًا وحيدًا مقطوعًا من شجرة ومن دون أن ننقِص عنك من عذابِ السجن شيئًا».
لنا أن نرى كيف اسودَّت الدنيا في قلبه وكيف انهارَ حلمُ اللقاء بعد حبسةٍ ذاقَ فيها ويلاتِ القهر، ليجد في نهايةِ النفقِ من يخفِّفُ عنه عَظَمَ البلاء وثِقَلَ الليالي الحالِكات؛ لن يجد أحدًا: لا بيتًا، ولا ابتسامةً، ولا حضنًا يلتَمِسُ فيه دفئا. دخل السجنَ وحيدًا وسيولد منه وحيدًا — هذا إن كُتِبَ له ميلادٌ من جديد.
سبعةَ عشرَ شهْرًا وهو يَخوضُ حربًا ضَرُوسًا مع أوهامٍ حاقدةٍ جاءتْه من عمقِ تَرَّهاتٍ دِينيّةٍ عنصريةٍ متطرفة، جاءت على شكلِ رجلٍ مُعتوهٍ نازيٍّ يريدُ أن يستعرضَ عضلاتِ أحقادِه على معتقلين لا يملِكون لأنفسهم حَوْلًا ولا قوّة. ويتفنَّنُ هذا في اختراعِ واكتشافِ ما لم تَصلْ إليه البشريّةُ من أشكالِ العذاب؛ أراد لهم أن يتحوّلوا إلى هياكلَ عظميةٍ، فجوّعَهم حتى وصلوا إلى ما أراد؛ أراد أن يَنزَعَ منهم صفاتِهم البشريّةَ، فوَجَّهَ لهم كُلَّ أصنافِ المهانةِ والإذلال: أن تُخفضَ رأسك وصوتك وروحك وتَسِيرَ تحت سقفٍ رسمَهُ هذا المُعتوهُ في سجونه، أن تعيشَ عارٍ رغمَ أنفِ بردِ الصحراءِ في شتاءٍ لا يرحمُ المتدثِّرين بملابسِهم الثقيلة، أن تُسلَّطَ عليك الكلابُ المتوحِّشة فتَنَهَشَ جسدَكَ المجوّع، أن تختارَ بين قسمِ الجحيم أو قسمِ جهنّم في سجن «سِدي تومان» ولك حرِّيّةُ الاختيار.
سبعةَ عشرَ شهرًا في سجونٍ وظَّفَت فيها فرقًا من ذئابٍ درَّبت وحرَّضَت على براعاتِ الاختراع لكلِّ صنوفِ العذابِ التي لم تخطرْ على قلبِ بشرٍ من قبل؛ أرادوا لهم أن يتلظَّوا ويتجرَّعوا ما لَذَّ وطابَ لسجانٍ لا يعرفُ إلا أن هؤلاء ليسوا بشراً؛ هؤلاء مجرّد صراصيرَ أو جرذانَ أو دونَ ذلك، هم حَلٌّ لك أيُّها السجانُ أن تفعلَ بهم ما يدورُ في خُلدِكَ المريض.
سبعةَ عشرَ شهرًا لم تكن له حبسةٌ وقيدٌ — وهذه وحدها كافية — ولكنهم زادوا عليها من العذابِ أضعافًا مضاعفةً مما يَندى له جبينُ البشريّةِ، وممَّا لم يسبق لهم أحدٌ أن مارسَه من عتاولةِ مجرمي البشريّة.
الشيخُ من الدعاةِ والمحفِّظينَ لكتابِ الله؛ كان رافِعًا لمعنوياتِ الرجالِ هناك بابتسامَتِهِ الهادئة، هناك حيثُ مُنِعَ الكلامُ وأصبَحتِ الصلاةُ جريمةً تستدعي العذاب. لم يبقَ للشيخِ إلا لمعانُ الإيمانِ في عينيهِ ويقينٌ وقرٌّ في صدرِه، وله إشراقةٌ في وجهِه. هل سَمِعتم يومًا عن دعاةِ الهدى والخيرِ والصلاحِ قد مُنعوا من الكلامِ ولم يبقَ لهم إلا صمتُ الحكيم ونظرةُ الحنانِ التي يبثُّها عبرَ أثيرِ عينيهِ دون أي همسٍ أو حركةِ لسان؟ ومع هذا كان يُصرَفُ له من العذاب ما يميِّزه عن غيره.
لقد أغاظَهُم كيف استقبلَ خبرَ استشهادِ عائلتِه عن بكْرةِ أبيها دون أن تُظهِرَ عليه أيّةَ علامةٍ من علامةِ الجزع؛ تماسكَ وعضَّ على نزيفِ روحه الحادّ، لم يُعطِهم لحظةَ ضعفٍ ولم يُشفِّ صدرَهم بدمعِة حزنٍ. هؤلاءُ الصحابةِ الجددِ تتفطَّرُ قلوبُهم ألمًا وتفيضُ صدورُهم قهرًا، ومع هذا يسكبون عليه من اليقين ما يُبرِّد لهيبَ قلوبِهم ويُسكت آلامَ أحزانِهم.
سبعةَ عشرَ شهرًا في دربِ العذابِ المهين تحت سياطِ أحقادِ ابنِ غفير؛ كيف كان يمرُ يومَها وكيف قطَّعَ حبالَها السوداءَ التي كانت تلتفُّ على عنقِه بكلِّ قسوةٍ وحقارةٍ؟ مشوارٌ طويلٌ طويلٌ، كأن أسوأَ ما فيه ألمُ المهانةِ والإذلال؛ هذا تخطَّى الجوعَ والبردَ والضربَ وتكسيرَ العِظامِ وكلَّ آلامِ الجسد، ويصلُ المرءُ إلى لحظةٍ تفيضُ فيها الرُّوحُ ولا يحتملُ الجسدُ اشتياقَ الرُّوحِ إلى بارئِها، رغم أنوفِهم الحاقدةِ — تحلِّقُ الأرواحُ عاليًا بعيدًا عن هذه الشرنقةِ التي حشروا فيها أنفسَهم وحشروا الناسَ معهم في زنازينِ أخلاقِهم البائدة.
ارتقت روحُ شهيدِنا تارِكةً السِّجنَ بكلِّ ما فيه من ألمٍ ومرارةٍ وأناسٍ يعذِّبون على مدارِ الساعة؛ هناكَ تشكو إلى بارئِها وتلتقي مع العائلةِ وكلِّ من اشتاقت لهم روحُهُ العالية.
الشهادةُ في سجونِهم جريمةٌ لا تَصلُها كلُّ جرائمِ المجرمين مهما بلغت. يجبُ ألا تمرَّ بسهولةٍ ويسرٍ؛ وسجونُهم هذه الأيام يجب أن تتحوّل إلى لعنةٍ تطاردُهم، وأن تشكّلَ واجهةً عالميّةً تُظهِرُ وجوهَ حربِ الإبادةِ القائمةِ في غزّةَ والمدمِّرةِ لكلِّ مناحي الحياة، والتي تتهاوى فيها القيمُ الإنسانيةُ العالميّة كما تنهارُ أبراجُ غزّةَ على رؤوسِ العباد.

























































