اخبار فلسطين
موقع كل يوم -فلسطين أون لاين
نشر بتاريخ: ١٥ أيلول ٢٠٢٥
بديهي القول إن المشروع الصهيوني في فلسطين ليس مجرد احتلال عسكريّ، بل خطة استعمارية إحلالية تستهدف الأرض والإنسان والموارد. فهذا المشروع الغربي الاستيطاني، المرتبط عضوياً بالإمبريالية ومخططاتها في منطقتنا، يعمل بمنهجية تراكمية وخطط مدروسة، تبدأ بـالقضم التدريجي للأرض، تليه عملية الهضم عبر خلق واقع جديد، وصولًا إلى مرحلة الضم حيث يسعى الاحتلال لفرض ما يسميه 'الحقائق على الأرض'. ويفعل كل ذلك وفق قانون صهيوني ثابت لا يتغير: أرض أكثر، وعرب أقل.
أولاً: القضم
وضعُ اليد على الأرض. هذه المرحلة الأولى في منظومة الاستيطان الصهيوني، تقوم على «قضم لقمة» يبتلعها تدريجيًا. وقد بدأ هذا النهج منذ العام 1878 مع أول مستعمرة أسّسها العدوّ (بيتح تيكفا) على أرض قرية (ملَبّس) الفلسطينية، ثم تسارعت خطواته التوسعية بتغطية من الانتداب البريطاني وكبار الملاك من طبقة الاقطاع، ومع حرب الاقتلاع 1948 ابتلع الجزء الأكبر من أرض فلسطين، وكرّس هذا النهج بعد احتلال الضفة الغربية وقطاع غزة وشرق القدس عام 1967. اليوم تتجلى هذه السياسة في الانتشار الكثيف للمستعمرات والبؤر الاستيطانية. يوجد أكثر من 147 مستعمرة و224 بؤرة استيطانية زُرِعت في عمق الضفة الغربية والقدس. وبلغ عدد المستوطنين نحو 737 ألفًا حتى نهاية 2024، منهم أكثر من 503 ألفًا في الضفة الغربية، و233 ألفًا في الجزء الشرقي من القدس. عملية القضم لا تقتصر على إقامة مستعمرات، بل تمتد إلى السيطرة المكانيّة والسكانيّة.
جدار النهب والضم: لم يعد يذكره أحد، وبخاصة طبقة أوسلو العميلة، ويمتد كأفعى حجرية لأكثر من 713 كيلومترًا، حيث يقع 85% من مساره داخل الضفة، ويعزل نحو 9% من مساحتها. كذلك الطرق الالتفافية التي تقسّم الضفّة إلى جزر متناثرة يسهل عزلها أمنيًا واقتصاديًا، بينما تُحاصر القرى والمدن الفلسطينية بحواجز دائمة ومؤقتة، تجاوز عددها 650 حاجزًا، بينها 86 أُضيفت فقط بعد أكتوبر 2023. تُصمَّم هذه المنظومة لتقطيع أوصال الجغرافيا الفلسطينية وتحويلها إلى 'كانتونات -معازل' محاصرة، بينما يضمن الاحتلال تواصله الجغرافي الكامل بين المستعمرات عبر شبكة طرق عسكرية وخدماتية متطورة.
مشروع إي 1/ شرق واحد:
هدف هذا المشروع ضم الكتل الاستيطانية الكبرى (معاليه أدوميم) إلى القدس، وتقسيم الضفة، وعزل قرى القدس المتاخمة للمدينة. فما يسمى (E1) مخطط إسرائيلي يقع بين مستوطنتي معاليه أدوميم وبسجات زئيف في مناطق (ج) الخاضعة للسيطرة الإسرائيلية، يمتد على مساحة نحو 12 كيلومترا مربعا بين بلدات عناتا والعيساوية والزعيّم والعيزرية وأبو ديس.
أُطلق مخطط 'إي 1' بداية تسعينات القرن الماضي ضمن مساعي الاحتلال السيطرة على مدينة القدس وفصلها عن محيطها الفلسطيني. كل حكومات العدوّ المتعاقبة، دونما استثناء، أضافت 'مدماكاً' في المخطط الذي يعد جزءًا من إستراتيجية التوسع الاستيطاني التي تهدف إلى فرض السيطرة الكاملة على القدس ومحيطها وتوسيعها لاحقاً. لقد قرر العدوّ المضي في المشروع الآن لأنه يعتبر اللحظة مناسبة جداً مع حرب الإبادة في غزة، وانهيار الموقف الفلسطيني(العربي) الرسمي، وصعود اليمين الفاشي، ناهيك عن وجود إدارة أمريكية تشجع الاستيطان وتقوم بتغطية جرائم العدوّ، وتوفر له الغطاء الشامل.
ثانيًا: الهضم – تكريس السيطرة بقوة السلاح وضعف السلطة الوكيلة.
إذا كان القضم يوفّر الأرض، فإن الهضم يُعيد تشكيلها، بحيث تصبح المناطق المستولى عليها جزءًا من البنية الإسرائيلية أمنياً، وسكانيًا، واقتصاديًا، وقانونيًا. أي إعادة تشكيل الديمغرافيا. ويراهن كيان العدوّ على خلق واقع جديد، حيث يُغري المستوطنين بالانتقال إلى الضفة الغربية وشرق القدس عبر حوافز اقتصادية ضخمة، تتضمن تسهيلات ضريبية وامتيازات مالية. يربط المستعمرات بشبكات بنى تحتية وخدمات صحية وتعليمية متقدمة. ويعمل على تشكيل عصابات وميليشيات مسلحة بالتعاون مع جيش الاحتلال (مقالنا في الأخبار: نحو فهم أدقّ للمُستعمَرة وأدواتها 2 أيلول 2023).
الاستيطان أصبح خيارًا جذابًا لشريحة من الطبقة الوسطى الإسرائيلية التي تبحث عن تكلفة أقل وجودة معيشة أعلى. والنتيجة: تضاعف عدد المستوطنين في الضفة خلال عقدين فقط. فالهضم لا يعني استجلاب 'السكان'، بل يشمل بالضرورة طرد العرب والسيطرة على الموارد والاقتصاد أيضاً. وإغراء الشركات الصهيونية للاستثمار السهل والربح السريع من خلال إنشاء مناطق صناعية متصلة بالطرق العسكرية، تستفيد من الأرض المصادَرة، وتستغل العمال الفلسطينيين ضمن منظومة قهر واستغلال متكاملة.
الاستحواذ على الموارد الطبيعية كالآبار والمياه الجوفية والأراضي الزراعية الخصبة، حيث يُمنع الفلسطينيون من الوصول إلى أكثر من 60% من أراضي الضفة المصنفة 'منطقة ج'. وربط اقتصاد الضفة بالاقتصاد الإسرائيلي عبر التحكم في المعابر، وتصاريح العمل، والمنافذ التجارية، وتعاون 'جماعة السلام الاقتصادي' من العملاء، بما يحوّل الاقتصاد الفلسطيني إلى ملحق هش ضمن بنية اقتصادية استعمارية.
جزء أساسي من عملية الهضم يتمثل في دمج المستعمرات إداريًا في مؤسسات 'الدولة الإسرائيلية' هذا يشمل المدارس، الجامعات، الخدمات الصحية، وحتى البريد والإنترنت تتبع مباشرة للوزارات الإسرائيلية. وتوسيع 'القوانين المدنية' على المستوطنين في الضفة الغربية، ناهيك عن تعديل أنظمة التخطيط لتخدم احتياجات الاستيطان، بينما يرفض الاحتلال أكثر من 95% من طلبات البناء الفلسطينية فيما يسمى بـ مناطق 'ج'.
ثالثًا: الضم – فرض الحقائق
المرحلة الأخيرة هي الضم، وهي تتويج لمسار طويل بدأ بالقضم والهضم. وقد لا يُعلن رسميًا دائمًا، ولكنه يُمارَس عبر خطوات متراكمة. هناك الضم الفعلي الذي لا يتم بقرار، بل بتكثيف الإجراءات، و'شرعنه' البؤر العشوائية وتحويلها إلى مستوطنات يطلق عليها العدو 'أحياء رسمية خاضعة للقوانين الإسرائيلية'، وهذا يعني إدماج المستعمرات في منظومة الخدمات الإسرائيلية: كهرباء، ماء، تعليم، صحة، ومواصلات. إلخ.
في القدس يتمثل الضم في توسيع صلاحيات 'بلدية' الاحتلال، والاستثمار في مشاريع 'إسكانية' وتجارية ضخمة، وربط 'الأحياء' الاستيطانية بالبنى التحتية الإسرائيلية، بينما يُحاصر الوجود الفلسطيني بالتضييق على التراخيص، والطرد، وهدم المنازل، وفرض الضرائب الباهظة.
سياسة القضم والهضم والضم ليست ممارسات جديدة ومتفرقة، بل استراتيجية صهيونية ثابتة ومتكاملة منذ نحو 147 سنة تهدف إلى تكريس مستعمرة الإمبريالية في المنطقة -إسرائيل- وتقوية قاعدتهم العسكرية عبر سرقة الأرض وتهجير العرب. مع ذلك، فإن عجلة الاستيطان الصهيوني لم ولن توقف المقاومة الشعبية والمسلحة على الأرض، فالمعركة في نهاية الأمر ليست قضية 'مناطق' بل مصير فلسطين من النهر إلى البحر، ومصير الوطن العربي أيضاً، من المحيط إلى الخليج.