اخبار فلسطين
موقع كل يوم -وكـالـة مـعـا الاخـبـارية
نشر بتاريخ: ٨ أيار ٢٠٢٥
الكاتب:
اللواء المتقاعد: أحمد عيسى
في محاولته قراءة مخرجات المجلس المركزي من منظار جيوسياسي سيطبق هذا المقال نموذج تحليلي كان قد وظفه الخبير الجيوسياسي المعروف (جورج فريدمان) في تحليله لقرارات الرئيس ترامب في الثاني من نيسان الماضي المتعلقة بالتعرفة الجمركية الهادفة إلى اعادة أمريكا لدولة عظيمة من جديد بما يؤهلها ضمان استمرار هيمنتها على النظام العالمي، وذلك عبر مقال له حمل عنوان ا(لتعرفة الجمركية من منظور جيوسياسي) ونشر على موقع المستقبل الجيوسياسي بتاريخ 7/4/2025
إذ اعتمد نموذج فريدمان التحليلي على مبدأين يجدرعدم إغفالهما في التحليل، المبدأ الأول يتعلق بالضروات الجيوسياسية، والمبدأ الثاني يدور حول وجوب التمييز بين الضرورات الجيوسياسية والهندسة الجيوسياسية.
وعرف فريدمان الضرورات الجيوسياسية بأنها الضرورات التي تجبر الدول على التصرف بطرق معينة، أما الهندسة الجيوسياسية فعرفها بأنها عملية تتطلب موازنة السياسية الداخلية للدولة بين أولئك الذين يرحبون بالواقع الجديد واولئك الذين يعارضون.
وأوضح فريدمان في سياق تحليله أن الضرورات الجيوسياسية في قرارات ترامب نبعت من حقيقة ما يشهده النظام العالمي من تحولات، أي أن النظام العالمي الذي ساد خلال القرن الماضي قد تآكل ولم تعد معايير الماضي ذات صلة بالقرارات الإستراتيجية للدول منفردة ومجتمعة، فكل ما كان مؤكد في الماضي أصبح الآن غير مؤكد، الأمر الذي عنى للرئيس ترامب وفريقه أن الواقع الجيوسياسي قبل قرارات الرئيس الخاصة بالتعرفة الجمركية ليس كما هو بعد هذه القرارات.
وحول الهندسة الجيوسياسية لهذه الضرورات ذكر فريدمان أنها لم تحظى باهتمام ترامب بل أنها تأتي لاحقاً ويتم هندستها بناء على نتائج المفاوضات التي ستجري وطنيا ودولياً بعد دخول قراره حيز النفاذ، الأمر الذي دفع فريدمان للقول أنها قرارات قامت على مبدأ عدم اليقين ونصيبها من النجاح ربما يساوي نصيبها من الفشل.
وعند تناول المشهد الفلسطيني بعد مخرجات المجلس المركزي في دورته الأخيرة بالتحليل وفق نموذج فريدمان فهناك ضرورة للإشارة أن دورة المجلس المركزي بما تضمنته من مخرجات ووثائق أبرزها خطاب الرئيس عباس الذي يعتبر وثيقة من وثائق المجلس، كانت الخطوة الأوضح في مسار إعادة بناء نظام سياسي فلسطيني جديد وفق الصفات التي تضمنها الخطاب.
في الواقع أن لا تعتبر الدورة الأخيرة للمجلس هي الخطوة المنشأة للنظام السياسي الموعود، إذ سبقها خطوات أخرى لعل أبرزها كان الإعلان الدستوري والقرارات المتعلقة بالأسرى ومناهج التعليم، الأمر الذي يسمح باستنباط ملامح النظام الجديد وحصرها بالنقاط التالية:
1- نظام يجمع ما بين النظامين السياسيين النافذين في فلسطين (نظام منظمة التحرير ونظام السلطة)
2- نظام ينتقل فيه الثقل من الشتات الفلسطيني للداخل الفلسطيني لا سيما فيما يخص منظمة التحرير الفلسطينية وما تمثله من نظام سياسي.
3- نظام لا مكان فيه لمن ينادي بضرورة عدم التموضع في معسكر القوة التي تسعى للمهيمنة على النظام العالمي الجديد.
4- نظام يتقدم فيه التأييد الإقليمي والدولي على صناديق الإقتراع كمصدر لاكتساب الشرعية.
ويبدو واضحا هنا أن هذه الملامح تثير قلقا مشروعا على شرعية النظام الجديد خاصة على شرعية رئيس السلطة الفلسطينية، لا سيما إذا تعثر اجراء الإنتخابات التشريعية بعد إنتهاء الآجال المحددة في الإعلان الدستوري، الأمر الذي سيكون له تداعياته على الإستقرار الداخلي الفلسطيني، وهنا يبرز سؤال كيف يمكن معالجة المخاوف وإزالة أسباب القلق؟
أما فيما يخص اللحظة الزمنية التي يجري فيها إستيلاد النظام السياسي الفلسطيني فهناك ضرورة للتوضيح أنها تجري في لحظة لا يتغير فيها الواقع الجيوسياسي ويتحول فيها النظام العالمي وحسب، بل علاوة على ذلك فهي تجري في ظل حرب ابادة تشنها إسرائيل على الشعب الفلسطيني منذ أكثر من عام ونصف إنتقل فيها الصراع الفلسطيني الإسرائيلي برمته من حقبة جيوسياسية الى حقبة أخرى مختلفة تماما، حلت فيها جرائم الإبادة والتطهير العرقي والتهجير محل الحل الوسط والحلول السياسية للصراع، الأمر الذي دفع البعض من الفلسطينيين لآعتبار أن النظام السياسي الفلسطيني الجديد إنما يأتي من باب الضرورات الجيوسياسية، فيما يرى آخرين من الفلسطينيين أنه يأتي من باب الإستجابة للإملاءات الخارجية.
وعند هذه النقطة يأتي دور الهندسة الجيوسياسية في التفريق بين الضرورات والإملاءات، الأمر الذي يجعل من المشروع التساؤل، هل أحسن الفلسطينيون الهندسة الجيوسياسية في قراراتهم واجراءاتهم؟ أي هل كانت فعلاً هناك موازنة سياسية داخلية وفقا للتعريف المتضمن في نموذج فريدمان التحليلي؟ أم أن الهندسة ستجري لاحقاً وفقا للنتائج؟ وهل أتت هذه القرارات والإجراءات من باب اليقين بأنها ستحقق الأهداف الوطنية العليا للشعب الفلسطيني؟ أم أنها اتخذت من باب المراهنة؟ وهل ستوقف هذه الإجراءات الإبادة وتجبر إسرائيل على العودة للحل الوسط ومعايير الماضي؟ وهل هناك يقين أن النظام الدولي الجديد لن يعيد ظلم الفلسطينيين مرة أخرى؟ وهل يدرك الفلسطينيين مآلات هذه الإجراءات ليس فقط على النظام السياسي الفلسطيني، بل وعلى حياتهم برمتها؟
أما في شأن النظام السياسي الفلسطيني النافذ يجادل هذا المقال أن هناك ضرورة جيوسياسية في إعادة بنائه من منطلقات فلسطينية لا تتجاهل معطيات تحول الواقع الجيوسياسي دوليا واقليميا وتداعيات هذا التحول على المصالح والأهداف العليا الفلسطينية، لا سيما وأن كثير من الفلسطينيين يطالبون بضرور أعادة بناء هذا النظام على أسس ديمقراطية، وكان الفلسطينيين قد طوروا قبل أكثر من عام المؤتمر الوطني الفلسطيني الذي يهدف الى اعادة بناء منظمة التحرير الفلسطينية دون المساس بوحدانية وشرعية تمثيلها للشعب الفلسطيني.
وفي ذات الشأن فالواقع في فلسطين يقول أن هناك ثلاث أنظمة سياسية فلسطينية وليس نظام واحد، والأهم ان هذه الأنظمة تختلف عن بعضها البعض من حيث نوع النظام وطبيعته، ولكل منها مرجعيته الدستورية الناظمة لعمله، الأول تمثله منظمة التحرير الفلسطينية ومرجعيته الدستورية هي الميثاق الوطني والنظام الأساسي لمنظمة التحرير الفلسطينية، والثاني تمثله السلطة الفلسطينية ومرجعيته الدستورية القانون الساسي المعدل العام 2003، والثالث تمثله الدولة الفلسطينية الموعودة ويعتبر الددستور الذي نشرت منه ثلاث مسودات حتى الآن هي مرجعيته الدستورية.
في الحقيقة أن اثنان من هذه الأنظمة (المنظمة والسلطة) نافذان في الواقع الفلسطيني وتشكل وثائقهما الدستورية مصدر مشروعية القرارات والمراسيم الصادرة عنه، وتقتضي الضرورة هنا التأكيد أن هذين النظامين يواجهان تحدي الفراغ الرئاسي إذا ما غادر الرئيس المشهد دون إستحداث منصب شغر الفراغ خاصة ما يتعلق برئاسة السلطة الفلسطينية في ظل عدم وجود مجلس تشريعي، حيث جرى معالجة تحدي فراغ شغور رئيس السلطة من خلال الإعلان الدستوري، وعالج إستحداث منصب نائب رئيس المنظمة والدولة التحدي الثاني.
وفيما جرى معالجة تحدي الفراغ عبر الإعلان الدستوري وقرارات المجلس المركزي، إلا أن الجدل والنقاش الذي أعقب انعقاد دورة المجلس المركزي يشير الى أن مخرجات المجلس وما سبقها من أجراءات تحمل في طياتها قلق ومخاوف مشروعة على شرعية النظام السياسي الفلسطيني الجديد وعلى منسوب الإستقرار في فلسطين وعلى علاقة الفلسطينيين بعضهم البعض لا سيما فلسطينيي الشتات وفلسطيني الدولة الموعودة.
في الختام يؤكد هذا المقال انه مجرد تحليل قد يكون نصيبه من الصواب يساوي نصيبه من الخطأ، ولكنه يأمل أن تثير الأسئلة التي تضمنها والأسئلة التي تضمنتها مقالات سابقة الجدل والنقاش الذي بدأ يتطور في فلسطين بعد انعقاد المجلس، وأرى في هذا المقال أنه ربما يكون إعلان قيام الدولة الفلسطينية المستقلة حتى وان كانت دولة تحت الإحتلال واعتماد مسودة دستورها هو الطريقة الأفضل والأسلم لمعالجة المخاوف وإزالة أسباب القلق.