اخبار فلسطين
موقع كل يوم -فلسطين أون لاين
نشر بتاريخ: ١٩ تشرين الثاني ٢٠٢٥
في حياة مرام، لم تكن الطفولة فصلاً بريئاً يمرّ خفيفاً كما يُفترض؛ كانت مساقاً مبكراً في علم البقاء، منذ أن كان عمرها عاماً واحداً حين اشتعلت حرب الفرقان، وسجّلت دماء خالها شهيداً أول سطر في دفتر صمودها، مرام تنتمي إلى جيلٍ لم يتعلّم المشي في البيوت، إنّما بين حوافّ الركام؛ جيلٍ لم يشاهد التلفاز قبل النوم، بل شاهد أقواس اللهب تُعيد رسم سماء غزة، وحين جاء الطوفان بعد سبعة عشر عاماً، كانت قد اكتملت صورتها عن العالم، فهذه الأرض لا تمنح أبناءها هدنة، بل تمنحهم ذاكرة مشحونة بالنجاة.
كبرت مرام وخيّمت ظلال حرب العصف المأكول، وهي لم تُكمل بعدُ ثمانية أعوام، قُصف بيت جدّها وبيوت أخوالها جميعاً، لتفتح عينيها الصغيرة على أول مشهدٍ كبير للدمار، عاشت كل حرب كأنها الامتحان الأول، وفقدت في الطوفان ابن عمّها وابنة عمّها، لتدرك أن القصف لا يكتفي بمطاردة الجسد، بل يحاول أن يسرق النسيج الهادئ للعائلة، ومع ذلك كانت مرام تمشي وسط الخراب كمن يحفظ خارطة خلاص سرّية لا يراها أحد سواها.
وفي وسط هذا الجحيم المفتوح، أدركت أن الاحتلال يستهدف البيوت ومعادلة الوعي نفسها؛ ويحاول أن يجعل التعليم ترفاً، والنجاح استثناء، والطموح جرماً لكن مرام بنت البيت المهدوم، فهمت اللعبة مبكراً؛ قرّرت أن تجعل من الامتياز فعلاً مضاداً لهندسة الإفقار، وأن تكتب مُعدلها على ضوء الشموع وصوت الطائرات، كي تثبت أن جيلها لم يُخلق للدوران في فلك الهزيمة، بل ليفلت من قبضة الحرب كما تفلت الروح من كمين الحصار.
اليوم، وهي تقف على عتبة مستقبل جديد، لا تحمل مرام شهادة نجاح فقط؛ مرام تحمل سيرة جيلٍ كامل صمد في وجه المجاعة، والنزوح، وفقدان الأحبّة، وامتحاناتٍ كُتبت إجاباتها وسط الخيام، نجاحها ليس رقماً في كشف علامات؛ إنه مؤشر وطني على أن الوعي الفلسطيني ما زال قادراً على إنتاج معنى رغم كل محاولات إبادته.
هذه ليست قصة طالبة توجيهي؛ هذه خريطة مقاومة شخصية لفتاةٍ ولدت بين الحروب، ونجت بين الحروب، وتفوّقت على الحروب.
التعليم في زمن الحرب
في غزة كان التعليم يُمثل ميدان اشتباك غير معلن بين إرادة الفلسطيني وبين منظومة كاملة تعمل على إطفاء وعيه، وأصبح القلم سلاحاً ضد هندسة الإفقار؛ تلك السياسة التي تستهدف العقل قبل استهداف الجسد، وتعمل بصمت على تحويل المدارس إلى ملاجئ، والكتب إلى بقايا ممزّقة وسط الركام، والطلاب إلى لاجئين يحملون حقائبهم على طرق نزوح لا تنتهي، وهنا يصبح الامتياز فعلاً مضاداً، يُمثّا كسراً لمعادلة القهر التي يريدها الاحتلال قدراً مكتوباً على وجوه الأطفال.
ومرام، ابنة البيت الجميل الذي فقدته بحرب الطوفان، واحدة من هذه الوجوه التي كبرت خارج القاعدة، منذ طفولتها المبكرة عاشت ما يكفي لفناء فردٍ كامل؛ فبيوت جدّها وأخوالها دُمّرت وهي لم تبلغ الثامنة، ثم توالت الحروب كأنها فصول دراسية في كتاب لا ينتهي: فصل الفقد، فصل الانتظار تحت طائرات لا تنام، وحين جاءت حرب الطوفان، لم تكتفِ بإعادة تكسير الجغرافيا حولها، بل كسرت أيضاً روابط العائلة بفقدها ابن عمها وابنة عمها.
مرام ابنة البيت المهدوم
في هذا الخراب، حاولت مرام بناء مساحة آمنة للدراسة، لكن المكان كان يتفلت من يديها، تحكي بصدقٍ يكشف حجم المعركة اليومية: 'كنت أمرّ بأيام أبكي من الدراسة، وأحكي إني مش قد هالحمل الصعب'، كانت تخاف من ضوء الشمعة كي لا توقظ إخوتها، وتخاف من الظلام لأنه يبتلع القدرة على التركيز، وعندما نزحت العائلة إلى الخيمة، تحوّل جسدها نفسه إلى ساحة مواجهة: 'الخيم كانت باردة لدرجة أحياناً عظمي يصير يوجعني من البرد، وما أقدر أنام إلا لما أخلص دراستي'.
انعدم الأمان الجسدي، فانعدم معه الزمن، كانت مرام تدرس في ساعاتٍ غير بشرية، تُنهي جدولها وهي تحلم بدفء لم يعد متاحاً، تقول: 'كنت أدرس الساعة 1 أو 2 بالليل.. وأظلني أكمل الليل وأنا داخلة على النوم من شدة التعب'، لم يكن الألم طارئًا، كان مقيماً معها، يقتطع من جسدها كل يوم جزءً جديداً، تقول: 'كانت دراستي عالأرض، أحياناً أبكي من وجع ظهري وما أقدر أنام من الوجع' ومع ذلك، ظلّت مرام تستردّ ذاتها من بين أنياب الحرب، تحوّل الليل إلى فرصة، والبرد إلى اختبار، والضيق إلى تصميم، لم تكن تدرس لتنجح فقط، كانت تدرس لتثبت لنفسها وللعالم أن الوعي لا يُقصف، وأن الذاكرة لا تُهدم، وفي غياب البيت الآمن، صنعت لنفسها مساحة معنوية تحتمي بها، مساحة مبنية من الطموح والإصرار والتحدي، لا من جدران إسمنتية.
هكذا، من قلب النزوح، من الخيمة الباردة، ومن الجسد المرهق الذي لم يُخلق لهذا القدر من الحرب، خرجت مرام بمعدل الامتياز، الذي كان علامة في كشف هوية مقاومة كتبتها بنفسها، ضد هندسة تُريد لهؤلاء الأطفال أن يتوقفوا عن الحلم.
تفاصيل المعركة اليومية مع الدراسة
لم تكن دراسة مرام رحلة أكاديمية عادية، كانت معركة يوميّة تُخاض بموارد شبه منعدمة، في بيئة تُصمَّم أصلاً لكسر الروح لا لتنشئة المتفوقين، الخيمة التي نزحت إليها عائلتها كانت ساحة امتحان دائمة تشتدّ فيها الأسئلة بقدر ما تشتدّ العواصف، في الخيمة لا يوجد يوم طبيعي؛ هناك فقط أيام يمكن احتمالها وأخرى تُحتمل بالقوة.
كان البرد أول الأعداء، لم يكن مجرد طقس، كان عاملاً يهاجم الجسد والقدرة على التركيز، تقول مرام: 'الخيمة كانت باردة لدرجة مرات عظمي يصير يوجعني من البرد'، هذا البرد كان يقف بينها وبين دفء النوم، يمدّ الليل ساعات أطول مما يحتمله عقل يتهيأ للامتحانات، ومع ذلك كانت تواصل: 'كنت أدرس الساعة 1 أو 2 بالليل، وأظل أكمل الليل وأنا داخلة على النوم من شدة التعب'.
أما الضوء، فكان قصة أخرى؛ ضوءٌ خافت، منهك، ينسحب تدريجياً كأنّه يعتذر عن البقاء، تقول مرام: 'كنت أسهر وما أزعج إخواتي، لأنه الضوء بيضل شغال لساعات كثيرة متأخرة بالليل'، فالليل في الخيمة ليس فرصة للهدوء، هو امتداد لفوضى النهار، وضيق المكان يجعل كل صوت اعتداءً على نوم الآخرين، وكل حركة استئذاناً من عتمة لا ترحم.
ثم جاء شتاء النزوح، وهو فصل لا يشبه أي شتاء آخر؛ شتاء يغيّر الجدول الدراسي كلياً، النهار فيه قصير، لا يتّسع للدراسة، والليل طويل، ممتد على البرد والظلام، تقول مرام: 'كان النهار قصير وما بقدر أخلص جدولي، فكنت أكمل بالليل'، كانت تلاحق الوقت كأنها تلاحق هواءً يتسرّب من بين أصابعها، النهار لا يكفي، والليل لا يرحم، والخيمة لا تتسع لكرسيّ واحد مريح أو زاوية تليق بطالبة توجيهي.
والتزاحم كان ركناً ثابتاً في هذه المعركة، لا مساحات شخصية، لا صمت، ولا ركن يمكن الإحساس بأنه مكان دراسة، ومع ذلك استطاعت مرام أن تخترع نظامها الخاص داخل الفوضى، تقول بفخرٍ صغير يلمع وسط التعب: 'كنت أخلص دراستي وأكون حاطة صح على كل بنود جدولي'، لم تكن تدير وقتها فقط، كانت تدير حرباً صغيرة ضد الظروف جميعها: البرد، الضيق، التعب، الازدحام، الرطوبة، قصر النهار، طول الليل، نوبات البكاء، المجاعة، والخوف من المستقبل، ومع ذلك لم تنكسر في أي جولة.
في الخيمة كان الامتحان يبدأ قبل أن يفتح الكتاب، كان يبدأ عندما تنجح مرام في خلق لحظة تركيزٍ وسط الجوع، أو مقعدٍ على الأرض لا يؤلم ظهرها، أو ساعة هدوء في الليل لا توقظ إخوتها ولا تقتل صبرها، تقول: 'كانت دراستي على الأرض، مرات أبكي من وجع ظهري وما أقدر أنام من الوجع'، ورغم كل ذلك، كانت تنهض كل صباح وكأنها تستقبل يوماً جديداً لا علاقة له بليل الأمس، في هذا تظهر المرونة المدهشة لروحٍ صغيرة واجهت وثبّتت نفسها على مقعد الامتحان قبل أن تجلس على مقعد الحياة.

























































