اخبار فلسطين
موقع كل يوم -فلسطين أون لاين
نشر بتاريخ: ١١ تشرين الثاني ٢٠٢٥
تواجه شرائح واسعة من سكان قطاع غزة منذ انتهاء الحرب شللاً شبه كامل في الخدمات المصرفية، لا سيما خدمتي السحب والإيداع اللتين تُعدّان شريان الحياة للرواتب اليومية والتحويلات المالية.
وقد حوّل هذا التعطّل حياة الكثيرين إلى كابوس يومي، إذ أصبح الحصول على رواتبهم أو إيداع أموالهم أمرًا شبه مستحيل، ما دفعهم للمطالبة الفورية بتدخل عاجل من البنوك وسلطة النقد.
وقال المواطن أحمد عابد إنه لم يتمكن منذ فترة من سحب راتبه من البنك، مشيرًا إلى أنه يعتمد على حسابه البنكي في تسيير معاملاته اليومية، لكن توقف الخدمات بسبب آثار الحرب جعله عاجزًا عن تلبية احتياجاته الأساسية.
وأضاف أن سلطة النقد كانت قد وعدت المودعين بإرسال صرّافات آلية إضافية إلى قطاع غزة لتسهيل المعاملات المالية، إلا أن هذا الوعد لم يتحقق حتى الآن، ما زاد من معاناة المواطنين.
وفي سياق مماثل، تحدث التاجر سامر غراب عن الصعوبات التي يواجهها عند إيداع أمواله في البنك، قائلاً إن الموظفين رفضوا استلام الأموال، ما اضطره إلى الاحتفاظ بها في منزله خوفًا من السرقة.
وأوضح غراب أنه كان يسعى أيضًا للتخلّص من عملة تالفة لا يقبلها السوق أو المتسوقون، لكن توقف الخدمات البنكية حال دون ذلك، مما جعله محاصرًا بين مخاطر مالية مباشرة وعدم القدرة على إدارة أمواله.
من جانبه، أكد الخبير الاقتصادي محمد العف أن تعطل المعاملات المصرفية في قطاع غزة بعد الحرب، وخاصة خدمتي السحب والإيداع وصرف الشيكات، يمثل أزمة اقتصادية واجتماعية كبيرة تهدد حياة المواطنين اليومية واستقرار السوق المحلي.
وأوضح العف أن المنظومة المصرفية في غزة، التي تعتمد بدرجة كبيرة على رواتب موظفي القطاع العام ووكالة الأونروا، واجهت شللاً شبه تام بعد الحرب، ما كشف هشاشة البنية المالية في القطاع وخلق أزمات معيشية عميقة امتدت إلى جميع القطاعات الاقتصادية.
وأضاف أن الأسباب الظاهرية وراء توقف البنوك عن العمل بالحد الأدنى تشمل عدة عوامل رئيسية، أبرزها الظروف الأمنية غير المستقرة، إذ أدى غياب القوات الشرطية وانعدام الأمن إلى عدم قدرة البنوك على تأمين نقل الأموال وتغذية الصرّافات الآلية، إضافة إلى مخاطر السطو والنهب التي هددت سلامة الموظفين والعملاء، ما دفع معظم البنوك إلى إغلاق خدماتها جزئيًا أو كليًا في بعض المناطق.
كما أشار إلى تدمير مقارّ الفروع وانقطاع الخدمات اللوجستية، ما أجبر البنوك على الإغلاق التام أو الجزئي، خاصة في شمال ووسط القطاع.
ولفت العف أيضًا إلى الأسباب التقنية، مثل انقطاع الكهرباء والإنترنت، حيث تعتمد المعاملات البنكية الإلكترونية على الاتصال المستمر، ومع تعطل الشبكات تعطلت أنظمة السحب والتحويل، كما تعطّل عدد كبير من أجهزة الصرّاف الآلي نتيجة الانقطاع المباشر للكهرباء أو الأضرار الناجمة عن القصف.
ونوه إلى الأسباب الاقتصادية والمالية، موضحًا أن توقف الإمدادات النقدية من خارج القطاع وتعذر وصول شحنات الأموال جعل البنوك غير قادرة على تلبية طلبات السحب، كما أثّر انكماش النشاط التجاري وصعوبة التحويلات المحلية والخارجية وتوقف التوريد والاستيراد على قدرة القطاع المصرفي على العمل بانتظام.
أما الأسباب التنظيمية والقانونية، فتمثلت – بحسب العف – في القيود المفروضة على التحويلات الخارجية نتيجة الحصار المالي المفروض على غزة، وإجراءات البنوك المركزية الاحترازية التي قلّصت عمليات السحب اليومية لتفادي نفاد السيولة وضمان الحد الأدنى من التوازن المالي.
وأشار العف إلى أن توقف المعاملات المصرفية أدى إلى نشوء اقتصاد موازٍ، حيث لجأ عشرات الآلاف من المواطنين إلى ما يُعرف بـ'تجّار السيولة' لصرف الرواتب نقدًا مقابل عمولات مرتفعة وصلت أحيانًا إلى 40-50%، ما أدى إلى استنزاف دخل الموظفين وزيادة حجم التداول النقدي خارج البنوك، وإضعاف الرقابة المالية والضريبية، وتحويل النقد إلى سلعة تتحكم بها قوى السوق وفق مبدأ العرض والطلب.
وأضاف أن توقف الخدمات المصرفية أثر على الثقة بالبنوك، خاصة لدى الفئات محدودة الدخل التي باتت ترى في هذه الخدمات عبئًا إضافيًا بدل أن تكون وسيلة أمان، كما أدى إلى شلل شبه كامل في النشاط التجاري المحلي وارتفاع أسعار السلع والخدمات نتيجة صعوبة التحويل والدفع الإلكتروني.
وأكد العف أن تعطّل صرف الرواتب والمساعدات الدولية انعكس سلبًا على الفئات الهشة، مع تراجع القوة الشرائية وارتفاع معدلات الفقر والبطالة، ما جعل المواطن الحلقة الأضعف بين صراعات المال والسياسة.
وفيما يتعلق بسبل المعالجة، شدد العف على ضرورة إعادة تأهيل البنية التحتية البنكية وتأمين الفروع والمقار بخطط طوارئ مرنة، وتفعيل أنظمة المحاسبة السحابية وخدمات المحافظ الرقمية التي تعمل حتى في ظل ضعف الاتصال، إلى جانب توفير دعم دولي طارئ لتغذية البنوك بالسيولة النقدية وتغطية احتياجات موظفي القطاع العام.
كما دعا إلى تنظيم ظاهرة تجار السيولة عبر مراقبة التعاملات النقدية، وتشجيع العودة التدريجية للنظام المصرفي الرسمي، وإطلاق برامج توعية مالية لتعزيز الثقة بالبنوك وتثقيف المواطنين بوسائل الدفع الحديثة.
واختتم العف بالتأكيد على أن تجربة غزة بعد الحرب تُظهر أن تعطل النظام المصرفي لا يجمّد الأموال فحسب، بل يخلق اقتصادًا مشوّهًا تتحكم فيه قوى السوق غير الرسمية، مؤكدًا أن إعادة تشغيل البنوك وضمان تدفق السيولة الآمنة يجب أن يكون جزءًا أساسيًا من جهود الإعمار، لأن التعافي المالي هو الأساس لأي تعافٍ اقتصادي أو اجتماعي لاحق.
وأشار إلى أنه من دون نظام مصرفي مستقر وآمن، ستبقى دورة الحياة الاقتصادية في حالة شلل دائم، وسيظل المواطن الحلقة الأضعف بين صراعات المال والسياسة.

























































