اخبار فلسطين
موقع كل يوم -فلسطين أون لاين
نشر بتاريخ: ١٦ أيار ٢٠٢٥
في غرفة صغيرة داخل منزلها بمخيم الشاطئ غرب مدينة غزة، تجلس المسنة سعاد محمد أبو عودة (77 عامًا)، وجهها يحمل آثار الزمن وجسدها أثقلته الأيام، وذاكرتها تقاوم النسيان، وقلبها يتشبث بالحنين والذكريات. وُلدت في أكتوبر/ تشرين الأول 1948 في بلدة حمامة، قبل هجرة أهل البلدة بستة عشر يومًا، ورغم تقدمها في السن، لا يزال الحنين يسرق قلبها نحو 'حمامة'.
عاشت حياة اللجوء طفلةً، وترعرعت على الألم الذي ما زال يلاحقها حتى اليوم. كانت طفولتها في خيمة، وعادت في كبرها لتعيش في خيمة نزوح أخرى خلال الحرب. كانت الخيام القاسم المشترك بين مرحلتين زمنيتين عايشهما الشعب الفلسطيني، حيث خاض ملحمتين: التهجير والإبادة.
خلال رحلة الهجرة، حملتها أمها وركضت بها هربًا من الموت، مصطحبةً معها حبات الزيتون وبعض الملابس. تحكي ما سمعته عن مجزرة 'دير ياسين': 'لم أشعر بمشقة الطريق، لكن ما روته لي أمي أن الناس تنقلوا بين البلدات طوال المسير. استطاع جدي، الذي كان مختار البلدة آنذاك، أن يجلب شاحنة فأكملنا الطريق بها حتى وصلنا إلى خان يونس جنوب القطاع، وهناك عشت في خيمة لمدة ثلاث سنوات'.
تسحب نفسًا عميقًا، وعيناها ذابلتان، وتروي بصوت ضعيف لـ 'فلسطين أون لاين' في الذكرى الـ 77 للنكبة: 'استلمنا غرفة سكنية في البداية، ومن هنا نشأ المخيم، ثم أقمنا قواطع بين الغرف لفصل البيوت، وبعدها تطور المخيم'.
ظلّ حنينها لحمامة حاضرًا حتى حين زارتها وعمرها نحو 23 سنة: 'بيارة البرتقال التي اشتهرت بها حمامة بقيت كما هي، وفرن الطين الذي كان يخبز فيه الناس شاهد على تجذرنا فيها. يومها أمسكت ترابها واستنشقت هواءها، تجولت بين بيوتها المهجّرة والفارغة، وأكلت من ثمار البرتقال' تقول مبتسمةً بحسرة.
خلال الحرب، نزحت الجدة أبو عودة من المخيم إلى مركز إيواء في رفح، ثم إلى خيمة في دير البلح. يثقل العمر صوتها وهي تكمل: 'حياة الخيام صعبة، خاصة على كبار السن. الكلاب كانت تخيفنا في الليل، وصوت القصف لا يفارقنا. نعيش في عتمة وظلام'.
رزقت أبو عودة بتسعة أبناء، توفي أحدهم قبل الحرب وترك لها طفلين بعمر 9 و11 سنة مع والدتهم، لتعود الحاجة في هذا العمر إلى التربية من جديد. ورغم تقدمها في العمر، لم تمُت أمنية العودة، ويعلو صوت الحنين في كلماتها: 'إن شاء الله أبقى طيبة، وأرى حمامة. الإنسان لا ينسى وطنه، واللاجئ يشعر أن وراءه شيئًا يريد رؤيته'.
حياة الخيام
الحاجة حفيظة إبراهيم أبو سيف (70 سنة) وُلدت بعد سبع سنوات من النكبة، وهي لاجئة من مدينة يافا. روى لها جدها قصص العيش في 'عروس البحر' كما تُلقب. هجرت من إحدى أجمل مدن فلسطين لتعيش ويلات اللجوء ومعاناته. نشأت في مخيمات كانت شاهدة على النكبة، وكبرت بين الأزقة، تعيش حياة مغلفة بالفقر والمعاناة، إلى أن وجدت نفسها مع تقدم العمر تعيش تشردًا ونزوحًا مستمرًا، وفي خيمة بعد هدم منزلها بمخيم جباليا، كامتداد لمعاناة لا تنتهي.
داخل خيمة في مخيم إيواء، لم تستطع الحاجة أبو سيف استقبالنا، وكادت تسقط من شدة التجويع، لولا أن أسندها نجلها وجلسها على كرسي. كانت تحمل زجاجة مياه صغيرة، وكانت الساعة تشير إلى الحادية عشرة صباحًا، ولم تتناول وجبة الإفطار، إذ نفد الدقيق من خيمتها منذ ثلاثة أسابيع، ولا تستطيع شراء المزيد بسبب ارتفاع سعره.
بصوت أنهكه الجوع، وبملامح أرهقتها حياة النزوح والخيم، تقول أبو سيف لـ 'فلسطين أون لاين': 'منذ أن وعينا على هذه الحياة ونحن نعيش في نزوح وتهجير ومعاناة وفقر. هذه هي حياة اللاجئ. عشنا في مخيم جباليا كشاهد على النكبة، وحاولوا تدمير هذا الشاهد لإنهاء القضية'.
خلال الحرب نزحت أبو سيف عدة مرات، وتنقلت بين شوارع شمال غزة، إلى أن استقرت في وسط مدينة غزة حيث تعيش في خيمة منذ أربعة أشهر، تعاني من الذباب والبعوض، وغياب المياه العذبة، والجوع الذي يفتك بأجساد الصغار والكبار: 'دمي ضعيف، وهذه حياة تؤثر على الكبير في السن'، تقول بأسى. وتضيف أنها أكلت قطعة خبز تالفة قبل أسبوع، لم تستطع كشفها بسبب العتمة.
ذاكرة حية في خيمة النزوح
بخيمة إيواء وسط مجمع مدارس تحولت إلى مركز إيواء في وسط مدينة غزة، يعيش الحاج لطفي أحمد شتوي (82 سنة) حياة نزوح منذ 19 شهرًا. وهو من سكان بيت لاهيا الأصليين، عاصر النكبة ولم يعش اللجوء. وُلد عام 1943، وكان عمره نحو ست سنوات عندما مرت أفواج اللاجئين من أمام منزله.
تجاعيد وجهه وتشققات يديه شاهدة على عذابات طويلة عاشها الشعب الفلسطيني، ورغم مرور 77 عامًا، لم تمح ذاكرة ذلك الطفل مشاهد الهجرة، ويستعيدها الآن قائلاً لـ 'فلسطين أون لاين'، جالسًا على سرير في الخيمة: 'نحن ضحايا دول كبرى سيطرت على فلسطين، كبريطانيا، وهي السبب في كل ما جرى لنا من مصائب ونكبة. كنا أناسًا ضعفاء، فقراء، نعمل مزارعين لا حول لنا ولا قوة، يسيطر علينا الأجنبي، ويفرض علينا الجهل وعدم التعلم بالمدارس حتى يبقى قابضًا على زمام الأمور. كان يمنعنا من حمل السلاح، وكانت عقوبة القبض على شخص يحمل رصاصة فارغة ستة أشهر'.
تتقلب المشاهد في ذاكرته، قائلاً: 'كنت أرى أفواج اللاجئين يمرون من أمامنا، يحملون بعض الأمتعة على رؤوسهم، يسيرون بتعب شديد، بلا مأوى. عاشوا بيننا في الكرومات الزراعية وبين المنازل حياة صعبة بلا عمل أو مال، وتقاسمنا معهم ضنك الحياة وقسوتها. لم نكن نجد الطحين والخبز كما نعيشه الآن، حتى تبنتهم الأونروا وسكنوا مخيمات اللجوء'.
لا تختلف حياة النزوح كثيرًا عن اللجوء في نظر الحاج لطفي، فالمعاناة متشابهة، وإن كان يرى أن هذه الحرب أشد من النكبة: 'كانت تقصفهم عدد من الطائرات، واليوم لا يتوقف القصف والقتل، ولا يمكن عد الطائرات في الأجواء. اللاجئون سكنوا دول الجوار وقطاع غزة والضفة، وتبنتهم الأونروا، ولم يواجهوا صعوبة الجوع الشديدة التي نعيشها الآن. نحن لا نجد ما نأكله، وقوة القصف الدموي لا توصف، وشراء رغيف الخبز يكلف خمسة شواقل'.
عن حياة الخيام، يتابع بصوته المتقطع من أثر العمر: 'الخيمة هي خيمة بكل ما تعنيه الكلمة، نعيش فيها محرومين من كل شيء: الطعام، الهواء، النوم بطمأنينة'.
قبل يومين، وبعد العشاء، أيقظه حفيده مفزوعًا: 'قوم يا سيدي، في خطر، بدهم يضربوا هذه الأماكن، خايفين يصيبنا شيء'. بعد نشر الاحتلال أوامر إخلاء لمربعات سكنية، يعلق بمرارة وقهر: 'بهذا العمر، أيقظني حفيدي من النوم. شخص كبير بالسن، بالكاد أستطيع المشي على عكازي، أُجبر على النزوح بالليل خوفًا من الاستهداف، ونمنا في خيمة أخرى عند أقارب، وعدنا في الصباح إلى خيمتي بعد زوال أمر الإخلاء. وهذه واحدة من المآسي التي نعيشها'.
بجانبه، تجلس شقيقته لطيفة (85 سنة)، رفيقته في الحياة، التي تولت مسؤولية إخوتها بعد وفاة والديهما. عندما كان عمرها 25 عامًا اعتقلها جيش الاحتلال لمدة عامين بسبب مساعدتها للفدائيين، تروي: 'قمت بمساعدة أخي محمد (18 سنة) في حفر ما يشبه خندقًا داخل فرن طين كنا نخبز فيه. كنا نحفر الخندق والمخبأ ليلاً ونبنيه بالحجارة'.
تتابع: 'في يوم جاءت قوة إسرائيلية واعتقلتني وسط عائلتي، وسألوني عن مكان الفدائيين. كان في المكان أخي واثنان من المقاومين. استطاع أحدهم الانسحاب، ولحقه الثاني، وقاتل أخي، واشتبك معهم وقتل العديد منهم ثم قُتل هو'.
كانت دموعها تهطل بصمت وهي تسترجع رحلة كفاحها وصمودها وصبرها في هذا العمر والنزوح في حياة مريرة تعيشها بعيدة عن منزلها وأرضها في بيت لاهيا.