اخبار فلسطين
موقع كل يوم -فلسطين أون لاين
نشر بتاريخ: ٢٨ تشرين الثاني ٢٠٢٥
في بوتقة الحرب، لا تتبدل المقاييس فحسب، بل تتحطم وتُعاد صياغتها، أو ربما تعود بنا القهقرى إلى سالف الأزمان؛ إلى شريعة البقاء البدائية حيث القوة هي المقياس، وحيث 'الرجل' ليس توصيفاً اجتماعياً، بل ضرورة حتميّة للنجاة.
في غزة، حيث يطحن الموت الحياة، أصبح من ليس لديه 'رجالٌ أشداء' واقعا في 'حيص بيص' حقيقي. لقد تجردت الحياة من رفاهيتها الزائفة وكشفت عن وجهها الحقيقي الذي يتطلب سواعد من فولاذ.
هل تدركون معنى أن تصبح الحياةُ اعتماداً كلياً على عضلاتٍ تَقدِرُ، وأكتافٍ تَحمِل؟ الحياةُ هنا، في قطاعنا الصابر، تحتاجُ رجالاً يحملون 'قالونات' المياه يومياً، ويسيرون بها مسافاتٍ طويلة، كأنهم سقاةُ قافلةٍ تاهت في صحراء. رجالٌ يقفون في طوابير 'التكيات' لساعات، لا ليجلبوا طعاماً شهياً، بل ليجلبوا 'ما يسد الرمق'.
نحن نحتاجُ رجالاً بقدرةٍ عجيبة على حزم الأمتعة في ثوانٍ معدودة، والنزوحِ تحت أزيز الرصاص وهدير النار. رجالاً يتقنون نصبَ الخيام في العراء، ويبنون من العدم 'أماكن لقضاء الحاجة'، ليصونوا ما تبقى من كرامة. رجالٌ يواجهون الجبال، لكنها جبالٌ من نوع آخر؛ جبالٌ من ركامِ البيوت المدمرة، فيزيحون الردمَ بأيديهم، ويهدمون الجدرانَ المتصدعةَ قبل أن تهدمَ هي ما تبقى من أمل.
في هذه الحرب، مَن لا يملكُ سنداً من هؤلاء الرجال، إن وضعه صعبٌ، ومصابه جلل. وقد تُجبَر بناته 'الرقيقات العفيفات'، اللواتي خُلقنَ للدفء والسكينة، على أن يخلعنَ رداءَ الأنوثة الناعمة، ويرتدينَ درعَ الخشونة، ليقمنَ بأعمال الرجال التي ينوءُ بحملها الأشدّاء.
كان هذا حالَ أخواتي؛ فتياتٌ في زهرة شبابهنّ، في أول العشرين أو تحتها بقليل، وجدنَ أنفسهنَّ فجأةً في مقعدٍ متقدمٍ في ساحةِ هذه الأعمال الشاقة. لم يكن لهنَّ من يسندهنّ، وأبوهنَّ شيخٌ كبيرٌ أثقلته السنون وهمومُ الحصار.
لكن يبدو أن موسى، نبيُّ العصور الغابرة، قد عادت أفعالُه في عصر حرب غزة.
لم تمت النخوةُ بعد. فكما سقى موسى لابنتي شعيب حين وجدهما تذودان، كانت الشهامةُ تَنبتُ في قلوبِ بعض الرجال هنا، فيبثُّون بهم قوةً لمساعدة أخواتي في حمل قالونات المياه الثقيلة. إنها ومضةٌ من زمنٍ مضى، تؤكدُ أن الخيرَ باقٍ في أصلابِ هذا الشعب.
بيدَ أن 'موسى غزة' الذي عرفناه، لم تكن نخوتُه مجردَ مساعدةٍ عابرة. لقد تجاوزت مهامُه مساعدةَ الفتياتِ الضعيفات اللاتي لا يقوينَ على أعمال الرجال، لتبلغَ أعلى درجاتِ الأمانة، والغيرةِ على العرضِ والشرفِ، وتقديمِ الروحِ فداءً للكرامة.
حدثَ ذلك في شمال قطاع غزة، في شهر مايو الماضي. عندما خرج أبي وأخواتي تحت القصف المكثف، وارتقت أختي 'نُهى' شهيدةً على الطريق.
بقيت 'نُهى' الشهيدة ملقاةً على الأرض. لم يستطع أحدٌ الرجوعَ لدفنها. وبقيت قلوبنا معلقة بها، تحترق ألماً وعجزاً.
فهول القصف كان أكبر من أي شجاعة. حتى سيارات الصليب الأحمر عجزت عن الوصول إليها.
أيُّ جحيمٍ هذا الذي يمنعُ دفنَ الموتى؟
في تلك اللحظةِ الفاصلة بين الإنسانية والوحشية، تقدم 'موسى' البطل. لم يكن موسى هذا نبياً، بل كان مقاوماً صنديداً؛ خاطرَ بنفسه، واتخذَ قراراً يهزُّ الجبال.
لقد 'ترك مقعد الجهاد' ومناورة المحتل، ووضعَ أولويةً واحدةً نصبَ عينيه: دفنُ هذه الشهيدةِ الملقاةِ على الأرض. لقد اعتبر 'موسى' أن دفنَ 'نُهى' هو أهمُّ الأعمال، حتى لو ارتقى على أثرِ ذلك شهيداً.
كانت نخوتُه ورجولتُه أصلبَ من الجبال. غيّر أولويات المعركة، ليُقيمَ شعيرةً من شعائر الله: إكرام الميت ودفنه، حتى لا تأكله الطيرُ والوحوشُ الضواري.
لم تكن 'نُهى' غريبةً عليه؛ 'موسى' المقاوم كان يعلمُ أنها بنتُ هذه المنطقة، وقد شاهدَ إصرارَها اليوميَّ وهي تحملُ المياه لأسرتها، وكذلك وهي تُوقد النارَ لتطبخَ وتخبزَ لإخوتها الصغار. لقد رآها رجلاً في ثوبِ فتاة، فقرر أن يكرمها كبطلة.
وبعد ستة أشهر من القلقِ والحُرقة على نهى الشهيدة التي لم نستطع دفنها أو توديعها، وصلنا الخبراليقين أن 'موسى' قام بدفن 'نُهى' في ثاني يومٍ لاستشهادها.
لا أحدَ في هذا العالمِ يعلمُ مقدارَ السعادةِ النفسيةِ التي غمرت قلوبَنا المثخنةَ بالجراحِ حين علمنا أن جسدَ 'نُهى' الطاهرَ قد وُسِّدَ الثرى. ولا أحدَ يدركُ حجمَ الامتنانِ الذي نحملُه في قلوبنا لهذا المقاومِ، الذي ربما وافته المنيةُ هو الآخرُ في أتونِ هذه الحرب.
لعله، بعد أعوامٍ، يُقدّم 'موسى' آخر. وربما يضربُ بعصاه هذا البحرَ المظلمَ من الاحتلال، فيزيحُ عن صدورنا هذا المحتلَّ الذي يمسكُ برقابنا بكلتا يديه ويكادُ يخنقنا.
نحن اليومَ في زمنٍ لا ننتظرُ فيه المعجزات؛ فعصرُ المعجزاتِ قد انتهى. ولكننا نثقُ أن اللهَ، الذي شهدَ كلَّ هذا، من الصعبِ أن يتركَ كلَّ هذه الدماءِ والتضحياتِ تذهبَ سدىً. نثقُ أنه سيعوضُنا العوضَ الذي يليقُ بصبرنا.
فهذه الدماءُ الطاهرةُ، دماءُ 'نُهى' وبطولةُ 'موسى'، ليست رخيصةً عند الله سبحانه وتعالى.

























































