اخبار فلسطين
موقع كل يوم -فلسطين أون لاين
نشر بتاريخ: ٢٩ حزيران ٢٠٢٥
لم تكن مهلة العشر دقائق التي حددها جيش الاحتلال كافية لأخذ أي شيء، في لحظة سادت الفوضى داخل الشقق السكنية بعمارة 'أبو إسكندر' بمدينة غزة على وقع صرخات تعالت من بيوت الجيران والشارع: 'أخلوا المكان' دون توضيح ما طبيعة الاستهداف إن كان للعمارة أم لشقة بداخلها، لتخرج العائلات فورًا وبالكاد استطاعت النجاة بأرواحهم وأخذ ما هو قريب منهم من هواتف ووثائق شخصية ومحافظ نقود معظمها ربما كانت فارغة، بعضهم لم يتمكن حتى من ارتداء حذائه.
تحت وطأة التهديد بالقصف خرجوا ولم يحملوا شيئًا سوى الصدمة والذهول، والتفكير فيما هو قادم من مأساة بعد فقد المأوى، وعادوا يحملون الذهول ذاته، وهم يرون طبقات العمارة تطبق على أحلامهم وذكرياتهم وتتحول إلى كومة ركام بعد انقشاع سحابة دخان كثيفة أحدثها القصف ليكون الخراب أكبر مما توقعوا لحظة خروجهم من الشقق معتقدين أن جيش الاحتلال سيقصفُ شقةً سكنية فيها.
في أرضٍ ملاصقة، للعمارة تضم عشرات خيام إيواء لعائلات نزحت قسرا من المناطق الشرقية لجباليا هربًا من الموت، وتركوا آخر ما استطاعوا أخذه من مقتنيات وملابس لازمة لحياة النزوح من منازلهم، ونجوا بأجسادهم وأرواحهم، ومن شدة القصف تطايرت معظم الخيام وتمزقت معظمها.
دون أن يدري ماذا حل بعمارته السكنية، عاد أبو جمال من عمله وأنزلته السيارة لمفرق 'أبو سكندر' سار عشرات الأمتار، ليرى من بعيدا تجمعا للمواطنين أمام العمارة دون أن تتضح الصورة أمامه، كان ينوي أخذ غفوة نوم قصيرة بعد يوم عملٍ صعبٍ، ليقف بنظرات متصلبة وذهول فاق من عايشه، وهو يرى العمارة مدمرةً.
مهلة قصيرة للنجاة
'بدأت بالسؤال عن زوجتي وأولادي الذين تركتهم داخل الشقة، فأخبرني الجيران أن الجميع خرجوا أحياء بعد تحديد مهلة قصيرة للنجاة. حمدت الله أنهم بخير، لكن في نفس الوقت يعز علينا هذا الفراق وهذا الوداع لشقاء العمر، خاصة أنني نزحت عنها مدة طويلة خلال الحرب، فالبيت يمثل في الحرب شيئًا كبيرًا' قال تلك الكلمات لصحيفة 'فلسطين' وهو يكتف يديه، ويقف أمام العمارة، وكأنّه يتأمل ذكريات عمره التي هدمها الاحتلال، ومحتارا كيف سيصل لشقته الواقعة بالطابق الثاني لمحاولة انتشال بعض المقتنيات.
في الأعلى، تسلق جاره عبد السلام اليعقوبي الركام، وبدأ بالنبش هو وأخوته بأيديهم وبلا أدوات بدائية، فكانت الأيدي ما هو متوفر وامتد العمل على مدار يوم ونصف متواصل في إخراج الملابس وبعض المقتنيات التي ظلت سليمة.
على مدار يومين انشغل اليعقوبي بمحاولة إخراج ما يمكن إخراجه من مقتنيات وملابس، ساعده في ذلك أنه يسكن بالطابق الخامس والأخير من البناية، فيما كانت الطوابق السفلية مطبقة على بعضها وعلى أحلام وذكريات ومقتنيات أصحابها.
بوجه شاحب منهك وملابس مليئة بالغبار وبعينين غائرتين يقول لصحيفة 'فلسطين': 'أعادونا لنقطة الصفر، أمضيت حياتي كلها في محاولة شراء الشقة بعد سنوات من العيش في بيت إيجار، حتى كبر أبنائي السبعة فيها، اثنان منهم دخلوا الجامعة، لنخرج بهذا الشكل المفاجئ وتحت التهديد بالقصف'.
'حسبنا الله ونعم الوكيل'.. خرجت تلك الدعوات من قلبه المكلوم، وهو يقف على ركام شقته السكنية وبجانبه كومة من الملابس وأدوات مطبخ وبعض الطعام استطاع إخراجها، وأخشاب أثاث منزله التي كانت تأوي ملابسه وذكرياتها، والآن ستصبح وقودًا لنارِ الطهي.
كل كلمة كان ينطق بها كانت ممزوجة بأنين يتدفق من قلبه، يعلق على المهلة بضحكة مصحوبة بالقهر: 'لم تزد عن عشر دقائق منحنا إياها الاحتلال. الاتصال جاء لأحد الجيران ولم يخبره ماذا سيستهدف الاحتلال هل شقة أم العمارة!؟، كنت عائدا للتو من مشوارٍ ولم أتناول الغداء بعد، لتبدأ حالة من الفوضى، خرجنا بملابسنا، على بعد مسافة رأيت الصاروخ وهو ينزل على العمارة ويدمر كذلك سيارتي التي لم يستطع إخراجها'.
في المخيم المجاور، كان النازحون يلملمون خيامهم المتطايرة على بعضهم، ويحاولون كنس الحجارة والردم المتطايرة، وإعادتها لموضعها، انهمك أبو أحمد على مدار يوم ونصف وجيرانه في كنس الردم، وإعادة تركيب الأخشاب.
وفي محيط العمارة كان الجيران يزيلون الركام المتطاير داخل شققهم التي تضررت معظمها بشكل كبير، 'الاحتلال تعمد إحداث كل هذا الخراب' يقول أبو أحمد لصحيفة 'فلسطين' بينما كان يعيد نصب خيمته: 'نزحنا إلى هنا في هذه الأرض هربًا من الموت. تركنا بيوتنا وكل شيءٍ، لنعيش فصلاً صعبًا وتشردًا جديدًا. تمزقت الخيام، وعندما عدنا لم نجدها في أماكنها'.
على مدار ساعات من العمل بعد القصف المدمر، لم يغفو الجيران وهم يزيلون الركام من داخل المنازل، وبقيت فتحات الجدران نتيجة شدة القصف شاهدة على يوم دام سيبقى محفورًا في ذاكرتهم، فكل يوم سينظرون من تلك الفتحات ليشاهدوا عمارة كبيرة كانت هي الأعلى بالمنطقة لتتحول لكومة ركام.
عودة بعد نزوح
مع صرخات الجيران، ارتدى سامح عبيد عباءته ووضع هاتفه ومحفظته في جيبه وخرج من المنزل، ليعود بنفس الصدمة التي رسمتها ملامح جيرانه، يثقل الحزن قلبه وهو يجلس على كرسي بلاستيكي أمام العمارة السكنية يتأمل الدمار الهائل، بينما يحاول أقاربه إخراج بعض المقتنيات والملابس من منزله الواقع بالطابق الأول'.
عن آخر اللحظات داخل البيت، يقول لصحيفة 'فلسطين': 'كنت بالبيت فسمعت الناس يصرخون 'أخلوا المكان'، دون فهم أي شيء ارتدينا ملابسنا وخرجنا. كانت شقتي كل ممتلكاتي وتعب وشقاء العمر'.
نزح عبيد قسرا عن شقته لنحو أربعة عشر شهرًا في جنوب القطاع، وكانت لحظة عودته نهاية يناير/ كانون ثاني الماضي مع إبرام اتفاق وقف إطلاق النار، لحظات سعيدة، يستذكرها بالرغم من مرارة ما يعيشه الآن: 'كانت لحظات مليئة بالفرح أننا وجدنا البيت وعشنا خمسة شهور بين جدران تأوينا مع أبنائي الثمانية، بالرغم من القصف والجوع'، واصفًا القصف بأنه 'عملية إذلال للشعب لكي يشعر بالمرارة'.
بجواره، كان باسم صيام يتفقد العمارة، ويحاول أخذ بعض مقتنياته بالنبش بين الركام، نزح قسرا كحال جاره عبيد لخمسة عشر شهرًا جنوب القطاع، وعاد ليحتضن ذكرياته بعد خمسة عشر عاما من العيش فيها وهو ستة من أبنائه، يقول وهو يقف قبالة الركام لصحيفة 'فلسطين' ويتقلب الوجع بين كلماته: 'البيت يعني الستر والمأوى، كانت اللحظات الأخيرة هادئة لكن لم ندرِ أن خلف الهدوء تختبئ مأساة جديدة، والآن أصبحنا في الشارع'.
داخل حاصل بلا واجهة بفعل القصف، كان علي أبو زاهر يتفقد أدواته الكهربائية التي تعرض معظمها للتلف، كان يتفقد محاله الذي طاله الدمار، وينظر لصورة الخراب الذي حل في المكان، يسيطر الذهول على ملامحه وهو يروي لصحيفة 'فلسطين': 'لقد بشّع القصف حارتنا، المشهد صعب أشبه بزلزال، كل البيوت المحيطة تضررت بصورة كبيرة، بيتنا الذي تعرض لقصف سابق واستشهد به أخي وزوجته وأولاده، أيضًا أصيب بأضرار جديدة. البضائع داخل المحل قمت بتجهيز الكثير منها لبيعها لكنها تدمرت'.