اخبار فلسطين
موقع كل يوم -فلسطين أون لاين
نشر بتاريخ: ٨ أيار ٢٠٢٥
توزعت الدماء على أرجاء المطعم، وتناثرت الأشلاء في كل مكان، وتحولت الجلسات العائلية على موائد الطعام للحظات فراق. لم يكن يدري الأهالي أنها الجلسة الأخيرة.
على إحدى الطاولات بمطعم 'التايلندي' بمدينة غزة، بقيت نظارة شمسية وردية وبجوارها قطعة 'بيتزا' وقطرات دماء، كانت الفتاة تحاول تناولها من طبق البيتزا الذي طلبته، وأسفل كرسي تجلس تساقطت بقع الدماء على الأرض، لتختلط بقع الدماء بطعام الفتاة، وعلى طاولات أخرى بالمطعم اتسعت الدماء لتملأ الأرض، ويتناثر طعام الشهداء والمصابين ويختلط بدمائهم، ويفترش الصمت المكان الذي كان قبل القصف يضج بالحياة، حينما حاولت الفتاة وغيرها من العائلات التي ارتادت المطعم التنفس في زحام الحرب.
بصدمة لا زالت تحتضن ملامحه، يقف الشاب جبر طافش، وهو أحد العاملين في المطعم، في زاوية من المطعم، يحاول التقاط أنفاسه بعد نجاته من المجزرة، التي كان في قلبها، لم يصدق أنه خرج حيَّا.
وبعدما كان يقدم الوجبات للزبائن ويلبي طلباتهم، يتجول طافش بين طعامهم الأخير ينظر لبقع دمائهم، فيما تتزاحم أمامه صورتان من المشهد، يحكي لصحيفة 'فلسطين': 'توزعت العائلات على الطاولات وكنت ألبي طلباتهم، فعلى طاولة طلبت فتاة البيتزا، وعائلة أخرى طلبت الحلوى، وكان هناك أطفال ونساء وفتيات وكبار سن. وحدث القصف في اللحظة التي كنا نضع فيها الطعام'.
تختنق الكلمات بين شفتيه، وهو يقترب من طاولة الفتاة: 'كانت تتناول الطعام، فما ذنبها!؟'، ويتقدم للأمام. يقف أمام برك دماء سالت من شهداء، يصف وهو يحاول التماسك أمام قسوة المشهد: 'كان المشهدُ مؤلمًا، وقاسيًا. الشهداء افترشوا الأرض التي امتلأت بالدماء، وأصيب كذلك بعض العاملين'.
انفجار كبير
من بوابة المطعم، كان أحمد وهو شاهد عيان تواجد بالمكان لحظة القصف يطمئن على أبناء عمه. يسكن الشاب قبالة المطعم، وأثناء القصف كان يجلس على الرصيف ولا يفصله عن الشهداء سوى شادر قماشي، 'كان صوت الانفجار كبيرًا. دخلت للمطعم مباشرة لإسعاف المصابين، فوجدت امرأة مليئة بالدماء، فتت القصف قدميها لكنها كانت تمشي. تحاول النجاة، وطفل آخر ممدا على الأرض، وشهداء هنا وهناك، ودماء تسيل، ولحظات قاسية تفتت القلب' يقول.
على بعد نحو خمسين مترًا من المطعم، ارتكب الاحتلال مجزرة أخرى عند مفرق 'بلميرا' بشارع الوحدة والذي يعج بالحركة نظرا لتحوله لسوق شعبي، وقعت المجزرتان بتوقيت واحد، مخلفة نحو 33 شهيدا وأكثر من 86 مصابا.
في منتصف المفرق المليء بالبسطات، وبمجرد سقوط الصاروخ الإسرائيلي بين المارة والبائعين وكل من جاء للسوق لجلب حاجياته توقفت الحركة وافترشت الدماء السوق وعلى ذات النحو اختلطت الدماء بالطعام، حينما كان الأهالي يبحثون عما يسد رمق الجوع، ويعود بشيء يطعم به أطفاله.
كان الأطفال يتجمعون أمام حمارٍ طاله القصف، وهو يلفظ أنفاسه الأخيرة، وبالقرب منهم يجلس الطفل حمزة عياد مع بعض الأطفال. والذي نجى من المجزرة بينما استشهد طفل آخر كان يقف بجواره، يروي لصحيفة 'فلسطين' وهو يحاول التماسك من هول ما عاشه: 'كنت أقوم برش المياه أمام بسطتي على المفترق، كان أمامي يقف طفل. لحظة سقوط الصاروخ ارتطمت الشظايا به. وقعت بفعل الانفجار، ثم نهضت لأجد الشهداء والمصابين يتمددون في كل مكان. كانت اللحظات قاسية'.
في نفس المكان، وبعدما سمع أحمد جبر الذي يسكن بالمنطقة صوت الانفجار، ركض نحو محل تجاري لشقيقه، ليجده مصابًا بالقدم، لم ينتظر قدوم الإسعافات، وحمله وركض به نحو المشفى.
على مقعدٍ، داخل قسم الطوارئ بمجمع الشفاء الطبي، كان جبر يجلس بجوار شقيقه فادي، بينما كان الممرض يحاول تنظيف الدماء، وإغلاق الجروح، بدون تخدير بعد نفاد المخدر بسبب كثرة المصابين. لم ير المصاب الجرح فقط لحظة إغلاقه بالخيوط الطبية، بل شعر بالألم بعينين متفتحتين.
وفيما يواصل الممرض إغلاق الجروح التي كانت تنزف على الأرض، يروي شقيقه لصحيفة 'فلسطين' عن لحظة الاستهداف: 'الناس تفتح بسطات لتوفير مصدر دخل. فجأة سقط الصاروخ وخلف دمارًا وعددًا كبيرًا من الشهداء. ركضت في تلك اللحظة، ووجدت معظم من كان على المفرق ملقى على الأرض إما شهيدًا أو مصابًا. وكلهم أطفال ونساء كانوا يمرون بالطريق لحظة الاستهداف لأنه سوق ومكتظ بالنازحين الذين فروا من الموت من شرق القطاع إلى غربه، وهي منطقة تحيط بها الكثير من مراكز الإيواء، ما يجعله مكتظا على مدار الوقت'.
ونتيجة الضغط الكبير على مستشفى الشفاء، والذي استقبل عددا كبيرا من المصابين تفوق طاقته الاستيعابية، ووجود حالات إصابات خطرة، تأخرت عملية إغلاق جروح شقيقه، ويقول فيما تمتلئ كفة يده بدمائه شقيقه أثناء حمله، وكذلك ملابسه: 'عندما وصلنا قاموا بلف الجرح، ثم فتح الجرح مرة أخرى ونزفت الدماء، وانتظرنا لنحو ساعتين حتى عاد الممرض لإغلاقه'.
كان المشهد بالمشفى صعبًا، امتلأت الأسرّة بالمصابين الذين افترشوا الأرض والمقاعد، وحتى في الساحات الخارجية، وتكدست غرف وممرات وأدراج ما تبقى من مستشفى الشفاء بعد تدميره، بالمرافقين والأهالي، وتوزعت المصابون في كل مكان وبالساحة الخارجية، ولم يتوقف قدوم الأهالي بحثًا عن أبنائهم في صفوف المصابين أو بين الشهداء، وقامت المشفى بتحويل مصابين لمستشفيات أخرى.
جنازات تشييع
وكذلك لم تتوقف جنازات التشييع عن مغادرة المشفى، مشيًا نحو المقابر، أو بواسطة سيارات، أو عربة 'تكتك' في ظل صعوبة توفير وسائل نقل مع عدم توفر الوقود، وكذلك صعوبة إيجاد قبر فارغ بعد امتلاء المقابر بمدينة غزة بعد وصول أعداد الشهداء لأكثر من 52 ألف شهيد.
في ركن آخر، كانت عائلة النونو تودع شهيدها جعفر، وهو بائع حاجيات على بسطة على مفرق 'بلميرا' بشارع الوحدة بمدينة غزة، كان الحزن يسكن عيون أخوته، وهو يلتحق بشقيقه محمد الذي استشهد في بداية الحرب.
من بين الشهداء، الصحفي يحيى صبيح، الذي استقبل مولودته صباح اليوم وكان يتواجد بالسوق لحظة القصف، نشر يحيى صورة له وهو يضع الوليدة بين ذراعيه ويشارك أصدقاءه مشاعر الفرح، ليكون يوم ميلادها هو يوم فقد والدها، وتمتزج ذكرى الميلاد بالشهادة.
كان الحزن يقف على حافة صوت والدة الفتى ناهض قانوع (16 سنة). تتساقط دموعها على وجهه، في لحظة كانت فيها تحاول إطالة العناق، وتضع قبلتها الأخيرة على جبينه، وتتأمل صورته الأخيرة. كان صوتها مرآة لقلب هشمه الفقد والحزن: 'يمّا ليش هيك رحت وسبتنيّ؟'، وكلما حاول المشيعون، اللحاق بركب الجنازات التي تخرج تباعًا من المشفى، كانت الأم تطلب منحها وقتًا إضافيًا لعناق ابنها.
'امبارح كان يوم ميلاده، واليوم لبس أحلى ملابسه، ايش ذنبه' في مشرحة الجثامين يتساءل بقهر والد الطفل نوح داود السقا (10 سنوات) وهو يلقي نظرة الوداع الأخيرة عليه، بعدما كان يحيي بالأمس يوم ميلاده. يتمدد الطفل مضجرا بالدماء، ساكنًا، هادئًا، قبل تكفينه وموارته الثرى.
خلفه كان صوت البكاء يملأ المكان، قادمًا من قلوب ذوي شهداء بقي بعضهم على الأرض يحيط بهم الأقارب. تقف فتاة أمام جثة والدها تحاول الاتصال بعائلتها ونقل الخبر لهم، وبجواره كان أحد المصابين يودع شهيدًا، وفي زاوية أخرى يتجمع شباب حول جثمان شهيد، يصرخون وهم يبكونه، وبينما لم تصل عائلات شهداء آخرين.
بداخل الثلاجات وهي المكان الذي يشيّع منه الشهيد نحو المقابر، تتمدد ثلاثة أكفان لشهداء، تجلس سيدة ووالدها أمام جثة خالها مريد محمد الزاملي (42 سنة) في لحظات وداع صامت يخفون حزنا دفينا في القلب. جاء خالها من جنوب القطاع في زيارة عائلية، ليستشهد بمدينة غزة أثناء مروره بالسوق لحظة القصف. يصرخ نجله وهو يودع والده: 'كان صديقي وليس أبًا فقط. كان يريد أن يزفني عريسًا' وانطلقت به الجنازة بواسطة عربة نحو المقبرة.
وحمل أخرون شهيدهم في صندوق خلفي لسيارة، وعائلة انتظرت إيجاد وسيلة نقل، وشبان يتجمعون أسفل شجرة أمام جثمان تتوارى دموعهم خلف أكف غطوا بها عيونها، ورجل حمل طفله بين ذراعيه وانطلق به مشيًا، في لحظاتٍ قاسية، يتجرع الآباء مراراتها. اعتادوا أن يحملوا أبناءهم لأسرّة النوم كي يستيقظوا في الصباح على يوم عائلي جديد وصباح مليء بالأحلام والأمنيات، وليس أن يسيروا بهم نحو المقابر، ويضعونهم بأنفسهم داخل القبر، ويحثون عليهم التراب، في مشهد تكرر في حياة الآباء في غزة، تفرضه قسوة الحرب وويلاتها.