اخبار فلسطين
موقع كل يوم -فلسطين أون لاين
نشر بتاريخ: ٩ تشرين الثاني ٢٠٢٥
منذ إعلان الهدنة في العاشر من أكتوبر 2025، خفتَ دويّ الطائرات والمدافع، لكن حرب التجويع التي يشنّها الاحتلال الإسرائيلي لم تتوقف، بل اتخذت شكلاً أكثر قسوة وهدوءًا.
فبدل القصف، صار التحكم في الطعام والماء والدواء هو السلاح الجديد لإخضاع أكثر من مليوني إنسان في غزة، يعيشون اليوم بين أطلال مدنهم وجوع أطفالهم.
ووفقًا لتقرير مكتب تنسيق الشؤون الإنسانية في الأمم المتحدة (OCHA) الصادر في 2 نوفمبر 2025، أدّت القيود الإسرائيلية المستمرة إلى رفض أكثر من 100 طلب لإدخال المساعدات منذ بدء الهدنة، ما تسبب في نقص حاد في الغذاء والمأوى والخدمات الطبية الأساسية.
آية طه، أمّ لثلاثة أطفال من مدينة غزة، تقول: 'لم أجد بيضًا أو لبنًا، أما الدجاج واللحوم فأسعارها مرتفعة جدًا منذ بدء إدخال المساعدات الغذائية. كل ما أراه هو شوكولاتة ومكسرات ونسكافيه'.
وتتابع طه لـ'فلسطين': 'هذه السلع ليست احتياجاتنا اليومية، إنها سكريات وكربوهيدرات تفتقر إلى البروتينات والفيتامينات، ما يزيد من خطر سوء التغذية. الأسعار مرتفعة جدًا، فكيلو الدجاج يصل إلى 80 شيكلًا، وهذا يجعلنا نشعر بالعجز أمام وفرة السلع الثانوية'.
منذر الشرفا من حيّ التفاح شرق غزة يتساءل مستنكرًا: 'هل تتخيل أن هناك شوكولاتة في غزة بينما لا توجد مضادات حيوية؟ أو فواكه لكن دون ضمادات جروح أو خيوط جراحية؟ هناك نقص تام في العناصر الأساسية التي يحتاجها الجسم البشري مثل اللحم والدجاج والسمك والبيض، وهي مكونات النظام الغذائي الصحي الأساسي'.
ويضيف الشرفا لـ'فلسطين': 'لا أشعر بأي تحسّن في الوضع الغذائي بعد وقف إطلاق النار، لأن السلع المتاحة غير صحية. الطعام المعلّب والمجفف لا يمكن أن يعوّض الطعام الطبيعي الأساسي مثل البيض واللحم الطازج، لذا لا يوجد تعافٍ من آثار المجاعة'.
وبحسب OCHA، فقد سُجّل في 1 نوفمبر 2025 دخول 197 شاحنة مساعدات (184 من كرم أبو سالم و13 من كيسوفيم)، لكن المعدّل اليومي لا يتجاوز 145 شاحنة فقط، أي ما يعادل 24% من أصل 600 شاحنة متفق عليها يوميًا، مما يعمّق الأزمة الغذائية.
وفي تصريح للأمم المتحدة بتاريخ 5 نوفمبر 2025، أكدت أن 'القيود الإسرائيلية تحول دون وصول المساعدات الكافية، ما يهدد حياة المدنيين'، مع رفض الاحتلال لأكثر من 100 طلب لإدخال المساعدات منذ الهدنة.
كما حذّر برنامج الأغذية العالمي (WFP) في تقريره الصادر بتاريخ 7 نوفمبر 2025 من أن 'الجوع في غزة وصل إلى مستويات مدمّرة'، مع ارتفاع حالات سوء التغذية بين الأطفال بنسبة 20% مقارنة بالعام الماضي، إضافة إلى نقص اللقاحات الروتينية لدى واحد من كل خمسة أطفال بسبب انهيار النظام الصحي.
هذه السياسة، التي تركّز على تقطير السلع الأساسية مثل اللحوم والألبان، بينما تُغرق الأسواق بالسلع الثانوية، لا تقتصر على الجوع الجسدي، بل تشكل إذلالًا نفسيًا يهدف إلى إضعاف الإرادة الجماعية، كما وثّقت منظمة العفو الدولية في تقاريرها الأخيرة.
ويقول الشرفا: 'ابنتي عانت من عدوى في إصبع قدمها، ولم أتمكن من العثور على مسكنات للألم، فيما تُباع المضادات الحيوية بأسعار باهظة تفوق الإمكانيات، ما يزيد من الإحباط'.
عبد الله شرشرة، محامٍ وباحث قانوني من غزة، يوضح: 'الأسواق مليئة بالسلع غير الأساسية، وتشمل الدقيق وأنواع الجبن المستخدمة في الحلويات والبيتزا، بالإضافة إلى السكر ومشتقات الدقيق المستخدمة في إنتاج المخبوزات'.
ويتابع شرشرة: 'من الواضح أن هذا التركيز على استيراد مثل هذه السلع يدفع الناس بشكل غير مباشر إلى الاعتماد عليها كمصدر غذاء رئيسي. هناك الآن زيادة غير طبيعية في أوزان الناس. يبدو أن الاحتلال الإسرائيلي يحاول إخفاء جريمة تجويع الفلسطينيين من خلال خلق صورة معاكسة، صورة زيادة الوزن السريعة وغير الطبيعية'.
ويضيف: 'فقدت وزني بسبب الخيارات الغذائية المحدودة والمتكررة التي أُجبرنا على تناولها طوال العام الماضي. الآن أتناول نفس الكميات، لكنها تؤدي إلى زيادة الوزن لأن المتاح فقط هو الكربوهيدرات والجبن المعالج واللحوم المصنعة. إنهم يجبروننا على زيادة الوزن بشكل منهجي، وهذا يسبب إذلالًا نفسيًا أعمق من الجوع نفسه'.
بدوره، يقول المحلل الاقتصادي أحمد أبو قمر إن الاحتلال الإسرائيلي يمارس سياسة اقتصادية ممنهجة تهدف إلى التحكم في السوق الغزي من خلال إدخال كميات محدودة من السلع الأساسية، مقابل إغراق الأسواق بمنتجات غير ضرورية.
ويضيف أبو قمر: 'ما يجري ليس مجرد نقص في البضائع، بل هو شكل من أشكال السيطرة المدروسة. الاحتلال يُدخل يوميًا نحو 145 إلى 150 شاحنة فقط، وهو رقم لا يغطي أدنى احتياجات السكان. يسمح الاحتلال بمرور بضائع ثانوية مثل الإندومي والشوكولاتة والنسكافيه، بينما يمنع أو يقطّر إدخال اللحوم والدواجن والسلع الأساسية التي يحتاجها المواطن لتأمين غذائه اليومي'.
تقطير الحياة
ويتابع أبو قمر لـ'فلسطين' أن هذه السياسة تندرج ضمن ما يسميه الاقتصاديون 'هندسة التجويع'، أي إدارة الجوع والتحكم في حدّته دون السماح بانفراجه الكامل.
'الاحتلال لا يريد موت الناس جوعًا، لكنه يريدهم دائمًا على حافة الجوع'، يوضح أبو قمر. 'هو يخلق حالة من التنغيص والحرمان تُبقي المواطن في دوامة العوز، وتُرسخ شعورًا دائمًا بعدم الاستقرار'.
ويشير إلى أن سياسة الاحتلال الاقتصادية لا تتعلق فقط بالغذاء، بل تمتد إلى كل ما يمسّ حياة الناس: 'حتى الأدوية والمستلزمات الطبية والملابس ومواد البناء والوقود، جميعها تُدار بسياسة التقطير. الاحتلال يريد أن يبقي غزة في وضع طارئ دائم، لا حرب كاملة ولا حياة طبيعية'.
وبحسب تقديراته، فإن أقل من 2% من سكان غزة يستطيعون الحصول على السلع الأساسية بشكل منتظم، في حين تعتمد الغالبية على المساعدات الإنسانية أو على المقايضة فيما بينهم.
حرب التجويع مستمرة
يصف أبو قمر ما يجري بأنه 'مرحلة جديدة من حرب الإبادة، لكن بأدوات اقتصادية هذه المرة'.
ويختم بالقول: 'الاحتلال يسعى لتدمير قدرة الإنسان الغزي على الصمود، ليس فقط بالقصف، بل عبر حرب الجوع والحرمان. يريد إبقاء الحرب قائمة حتى في غياب الطائرات والدبابات'.

























































