اخبار فلسطين
موقع كل يوم -فلسطين أون لاين
نشر بتاريخ: ٣٠ تشرين الأول ٢٠٢٥
ينكر كثيرون خوفهم من الموت، وتعلّمنا أن الإنكار لا يغيّر شيئا، ويضاعفه في مخيلتنا ويتوغّل في عقولنا وقلوبنا.
الخوف من الموت يضعف طاقاتنا ويسرق حيويتنا؛ فلا يوجد مستشار أسوأ من الخوف السلبي، خاصة من الموت.
ونقصد به الرعب من الموت وانتظاره دوما وسلب الإحساس بالحياة ومباهجها المشروعة منّا، «وقتل» الرغبة في الاستمتاع بها، والبهجة تضيف للعمر الكثير، وغيابها يجعلنا أمواتا وإن عشنا طويلا؛ فانتظار الموت يعني انتحارا بطيئا.
الخوف الإيجابي من الموت يحفّزنا على الاستفادة من أعمارنا ما استطعنا، لنحيا حياة «حقيقية» نتنفس فيها النجاحات في تفاصيلها المعيشية، وليس في العمل والدراسة فقط كما يتبادر إلى الذهن.
ويجعلنا «نختار» التغاضي عن الصغائر؛ فلا وقت لدينا لإهداره فيها، فالعمر مهما طال قليل، ولن نستطيع إطالته ثانية واحدة، فلماذا نهدرها على ما يؤلمنا؟ أليس من الأفضل التركيز على ما يفيدنا ويسعدنا؟
الفوز بالأفضل
يشجّعنا الخوف الإيجابي من الموت على تحقيق ما نستطيع من أحلامنا وأهدافنا في الحياة، وكما قال الرافعي: «إن لم تزد في الحياة كنت عبئا عليها».
عندما نذهب إلى رحلة نسعى للفوز بأفضل ما يمكننا، ونسارع بتجاوز المضايقات العابرة «للاستفادة» من الرحلة؛ فلماذا لا نفعل ذلك في أعمارنا التي لن تتكرّر؟ لماذا لا نستغلّ ثواني العمر وسنواته للعيش جيدا، وليس للمرور «العابر» في حياة لن تتكرّر أبدًا؟
تذكّر الموت وانتهاء الحياة فجأة وبلا أي «فرص» للتأجيل يساعدنا كثيرا في إعادة اختيار ما ومن «يستحق» مصاحبتنا في رحلتنا الوحيدة.
وهذا لا يعني التشاؤم والتفكير في الموت ليلا ونهارا، ولكن فلترة ما نتوقف عنده، «والقفز» بعيدا عن كل ما لا يهمّنا عدم الفوز به وقت الموت، حيث نكتشف حقيقة أننا سنغادر، ويندم الملايين من البشر يوميا عند وفاتهم لانشغالهم بأمور أضاعت منهم بعض أعمارهم، ولا وقت لإعادة بعض منها.
جوع وإنهاك
كلما زرعنا الخوف الإيجابي من الموت في أعمارنا تزايدت طاقاتنا واتسعت ابتساماتنا، «وانتعشت» عقولنا لإعمار حياتنا وتحسينها، وكنا «نورا» متنقلا يضيء لنا ولمن حولنا ممن «يريدون» إنقاذ أعمارهم من الفناء وسط دوّامات من الاحتياجات الاستهلاكية التي تنمّي الشعور بالجوع،
والذي يتسبّب في إصابة النفس «بالإنهاك» الدائم، كمن يجري دوما في دوائر لا تنتهي؛ فيكون مصيره السقوط المؤلم من آنٍ لآخر، وينهض «مضطرا» لمعاودة الجري المحموم، ويعاني السقوط مرّات ومرّات.
الخوف الإيجابي من الموت يعزّز الاستمتاع باللحظة وبكل ما فيها من نعم، ولا يتعارض مع الطموح للأفضل؛ فلو قامت القيامة وبيدنا فسيلة فلنغرسها، ولنعمل لدنيانا كأننا نعيش أبدا، ونعمل لآخرتنا كأننا نموت غدا.
المرفوض فقط هو طلب الحدّ الأقصى دون الاستمتاع بما لدينا، وهو ما يفوت على الكثيرين الذين يكنزون الأموال ولا يستمتعون بها، ويتركونها غالبا لمن لا يقدّرونها؛ فلم يتعبوا في جنيها وسرعان ما يبدّدونها في أمور لا تستحق، أو يتندرون على بخل أسرهم!
صحة وترفيه
الخوف الإيجابي من الموت يدفعنا للعناية بالصحة الجسدية للفوز بحياة طيبة، ولا نرتعب من الأمراض، بل نضعها في حجمها الطبيعي «كجزء» من الحياة، فلا نرضخ لها ونسعى للعلاج والتعلّم من دروسها التي يتجاهلها الكثيرون، ومنها تعلّم ما «يستحق» الانفعال من أجله، وما ننفق المال للحصول عليه، ومن ذلك اقتطاع بعض المال والوقت للإجازات وللترفيه.
فالحياة لا يجب حصرها في العمل والجلوس للتحديق في الفضائيات ووسائل التواصل الاجتماعي؛ فالإسراف في ذلك يسرق الأعمار ويتسبّب في الإجهاد النفسي ولو بعد حين.
يفزع البعض لكثرة موت الشباب الصغير، وقد جاء في الحديث الشريف أن ذلك من علامات اقتراب يوم القيامة، ويتندر آخرون وهم يتساءلون: متى يجيء يوم القيامة؟ ويتناسون أن لكل واحد منّا يوم قيامته، أي يوم رحيله عن الحياة، فليكن هذا اليوم يوما سعيدا.
ولن يكون كذلك إذا أضعنا أعمارنا في متابعة ماذا يفعل غيرنا في حياتهم، أو اكتفينا بأننا أفضل من البعض، وتجاهلنا أن الأذكى أن نسعى ليكون كل يوم أفضل مما سبقه في الدين والدنيا، وأن نتنافس مع «أنفسنا» فقط.
طرد وردع
اليقين بالموت يجب «توظيفه» للفوز بأفضل حياة، «وبفلترة» ما نشغل به عقولنا وقلوبنا وأوقاتنا، وطرد التوقف عند المضايقات التي لا تخلو منها حياة في الكون؛ فالعمر أغلى وأقصر من أن نهدر بعضه في التفكير فيمن ضايقنا، بينما هو يستفيد من عمره.
وهذا لا يتعارض بالطبع مع الحزم وردع من يتجاوز حدودنا بما يستحق، ثم «المسارعة» بطرده من اهتمامنا.
يموت البعض وهم على قيد الحياة عندما يقرّرون تسليم غيرهم مقاليد أمورهم؛ فيختارون لهم كيف يعيشون، ويتنبهون بعد فوات الأوان أنهم قد فاتهم أن يعيشوا الحياة «لخوفهم» من التجربة ومن المغامرة أحيانًا، فقاموا بتجميد أعمارهم، وحرَموا أنفسهم من متع المحاولات ورفع الرأس بعد أي فشل، واستنهاض الهمم من جديد، والفرح بالانتصار على معوقات الحياة الحقيقية.
نجا وانتحر!
نجا دوستويفسكي من الإعدام، «واحترم» حياته وأبدع وتفوّق، وواجه هيمنجواي الموت مرّات ونجا منه، ثم انتحر بإرادته!
وتسبّب تشرشل بموت فرقة في الحرب العالمية الأولى، وحرص على إنقاذ الآلاف في الحرب العالمية الثانية.
وكما قال الرائع نجيب محفوظ: «الخوف من الموت لا يمنع الموت، بل يمنع الحياة».
وصدق القائل: «الموت انتقال من الضيق إلى الواسع».
ومع ذلك فلا نتعجّله ولا نتمنّى حدوثه عند الأزمات، ولا نضيّق أعمارنا، بل نوسّعها بالإنجازات وبما يفيدنا ويسعدنا، وطرد التوقف عند الأحزان والمبالغة في امتصاص الهموم؛ فالعمر مهما طال قصير، وحتمية الموت تستلزم الانتباه للعمر ومنع الموت ونحن أحياء، فهو الأَقسى والأصعب والأكثر حدوثا أيضا.

























































